عبودية الشتاء

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2014-06-28 02:42:58

عبودية الشتاء(1)

 

الحمد لله الذي جعل في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عِبرة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، جعل لعباده أحوالاً تُذكِّرهم بعظيم قدرته، وكمال حكمته؛ ليجعلوا من ذلك إلى طاعة ربهم، والاستقامة على أمره سبيلاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي قام بحق ربه في كل أوقاته، فكان بحق هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، صلاةً دائمةً بدوام السماوات والأرضين، مقيمةً عليهم أبداً، لا تروم انتقالاً عنهم ولا تحويلاً، أما بعد:

فأوصيكم ونفسي -أيها المسلمون- بتقوى الله تعالى.

إن من علامات صحة القلب أن يكون معتبِراً بما يراه من آيات كونية، أو يسمعه من آيات شرعية.

ترى صاحب القلب الحي إذا قرأ أو سمع قول الله عز وجل: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ﴾[النور: 44] تساءل: هل أنا من أهل البصيرة الذين يعتبرون؟

وإذا مرّ بقولَ الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾[الفرقان: 62] بحث عن أثر هذا التقليب في قلبه، وأثره على زيادة شكره لربه!

هكذا هم أصحاب القلوب الحية، يعيشون حياتهم بين تأمل وتدبر، واعتبار وتفكر، ومن ذلك ما يراه المؤمن من عِبرة في "تقلب الفصول وما فيها من المصالح والحِكَم، وكيف سيكون الحال لو كان الزمان كله فصلاً واحداً! وكم سيفوت من مصالح الفصول الباقية؟!

إن في زمان الشتاء لمواضع من العِبَر.

1 ـ "ففيه تغور الحرارة في الأجواف، وبطونِ الأرضِ والجبالِ؛  فتتولد مواد الثمار وغيرُها، وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء، فيحصل -بإذن الله-: السحابُ، والمطرُ الذي به حياة الأرض وأهلِها،  واشتداد أبدان الحيوان، وقوتهُا، وتزايد القوى الطبيعية، واستخلاف ما حللته حرارة الصيف من الأبدان"([2]).

2 ـ ومن مواطن الاعتبار في هذا الفصل: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُذكِّر أصحابَه به؛ من أن هذه البرودة الشديدة التي يجدها الناس، إنما هي أحد نَفَسَي جهنم -أعاذنا الله وإياكم منها- كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قالت النار: رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لي أتنفس! فأذِن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفَس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم)).([3])

لذا كان من تمام نعيمِ أهلِ الجنة ـ جعلني الله وإياكم من أهلها ـ أنهم وُقوا أذى الحر والبر، كما قال سبحانه: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا﴾[الإنسان: 13]([4])، بعكس أهل النار -أجارنا الله منها- الذين يتنوع العذاب في حقهم حتى يجمع لهم بين الطعام الحار جداً، والبارد جداً، ولئن كان هذا مؤذياً في الدنيا، فما ظنك به في الآخرة؟! قال تعالى: ﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾[النبأ: 24، 25]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الغساقُ: الزمهرير البارد الذي يحرِق من برده، وقال تلميذه مجاهد: هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده!([5])

فمَنْ مِنا الذي إذا لسعه بردُ الشتاء تذكّر ما يعانيه أهل النار من شدة زمهرير جهنّم؟ ومن الذي إذا لسعه برد الشتاء تَذكّر ما يتجرعه أهل النار من غصص في أكل الغساق؟

3 ـ ومن آثار التفكر والاعتبار في تقلب الليل والنهار: شكرُ المنعم المتفضل بصالح الأعمال، ففي الشتاء تشتد المؤونة على بعض الناس، وتزيد الكلفة عليهم؛ بسبب الحاجة إلى التدفئة والرزق الذي قد لا يتهيأ طلبه في غير الشتاء.

فمَنْ الموفَّق الذي يبدأ بتلمس حاجات المعوزين -الذين اجتمع عليهم برد الشتاء وغلاء الأسعار-ويعبِّر أوضح التعبير عن خيرية المجتمع الذي يتفقد أحوال الضعفاء فيه؟!

ومن الموفَّق الذي يجتهد ألا يَمضي عليه هذا الفصل إلا وقد ساهم بتدفئة مسلم، أو إطعامه من جوع.

ومن مواطن الشكر في تقليب الليل والنهار، وفي فصل الشتاء بالذات: صيام ما أمكن من الأيام التي جاءت السنةُ ببيان فضلها، ومحاولة تخصيص جزء من الليل بالقيام ولو كان يسيراً، أما الصيام فلِقِصر النهار، وقلة المشقة في الصوم، "وأما قيام ليل الشتاء فلطوله، يمكن أن تأخذ النفسُ حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة، فيقرأ المصلي وِردَه كله من القرآن، وقد أخذت نفسُه حظها من النوم، فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه، مع إدراك ورده من القرآن؛ فيكمل له مصلحة دينه و راحة بدنه"([6]).

نعم أيها الفضلاء! القيام في ليل الشتاء فيه مشقة على النفوس من جهة تألم النفس بالقيام من الفراش في شدة البرد، وبما قد يجده من ألمٍ في إسباغ الوضوء -وهذا من أفضل الأعمال- لكن المؤمن -وهو يقوم- يحدوه أمران:

-       شكرُ الرب على نِعَمه الغزار.

-   والرغبةُ في التلذذ بمناجاة الرب بقراءة كلامه، وتزكيةِ القلب بتلاوة آياته، وتزكية النفس بالتملق بين يديه، ودعائه، وسؤاله من فضله.

روي أن الحسن البصري رحمه الله كان إذا قرأ هذه الآية -في صفات عباد الرحمن- قال: هذا وصف نهارهم، ثم قرأ ﴿وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾[الفرقان: 64] قال: هذا وصْفُ ليلهم.([7])  فرحم الله عبداً اقتدى بهم!

إن ليل الشتاء طويل فلا تقصروه بالغفلة، ولا تضيعوه بالسهر على المعاصي والملذات، ولنتشبه -ولو في بعض ليلنا- بليل المتقين الذاكرين؛ لعل الله أن يلحقنا بهم.

وإذا أردتَ أن تعرف الفرق بيننا وبين من عرفوا قيمة طول الليل، فتأمل في هذه القصة القصيرة في كلماتها، العظيمة في دلالاتها:

قال مهديّ بن ميمون رحمه الله: رأيت حسان بن أبي سنان -وهو في مرضه الذي مات فيه- فقيل له: كيف تجدك؟ قال: بخير إن نجوتُ من النار، فقيل له: فما تشتهي؟ قال: ليلة بعيدة ما بين الطرفين؛ أُحِيى ما بين طرفيها بالقيام!([8])

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة...


الخطبة الثانية

الحمد لله...، أما بعد:

فإن إخواننا في بلاد الشام، يمرّون هذه الأيام بموجة بردٍ شديدة، زادت من آلامهم، وضاعفت من متاعبهم.

كم حملت لنا الصور والمقاطع المرئية مشاهد مؤلمة، تذيب الكبود كمداً، وتذيب الصخر حزناً وألماً! طفلٌ صغير في "الرستن" يُصَّور بالفيديو بعد أن مات وكأنه قطعة خشب بسبب التجمّد!

وصباح يوم آخر يُعلن عن وفاة ستة أطفال سوريين وأمهم في مخيمات اللاجئين من البرد!

وعشرات الصور للأطفال الذين ماتوا على الأرصفة جوعاً وتشريداً وبرداً!

يا الله! هل ماتوا بسبب البرد حقاً أم بسبب برود مشاعرنا وتجمّد أحاسيسنا؟!

والله لو كان الموت من البرد لحيوانات نراها؛ لكان عاراً علينا تركها، فكيف بآدميين فضلاً عن مسلمين!

إن موت كل نفس بسبب البرد، مع القدرة على إنقاذها؛ يُخشى منه العقوبة!

لقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم عددٌ قليل من قبيلة مضر، وكانت حالتهم بائسة، لكنها لم تكن كحال إخواننا الآن في سوريا .. ومع ذلك تمعّر وجهه صلى الله عليه وسلم مما رأى، وقام وخطب الناس، وحثّهم على التبرع، والإغاثة العاجلة؛ فانطلق الصحابة رضي الله عنهم على قلة ذات يد أكثرهم، فسُدّت حاجتهم في ضحوة واحدة.

وإنني لواثق تماماً أن الناس هنا لو وجدوا طرقاً آمنة، ترعاها جهات موثوقة؛ لم يمض يومٌ واحد إلا وقدْ غُطِّيَت حاجةُ اللاجئين من البطانيات على الأقل! 

وهذا الذي يتمناه أهل بلادنا المباركة من ولاة أمرهم، أن تنطلق حملة إعاثة عاجلة، تمنح إخواننا الدف والطعام، وتدفع عنا إثم التقصير في حقهم.. فوالله إن النعم التي بين أيدينا اليوم كانت يوماً من الدهر في الشام واليمن .. فانتقلت إلينا امتحاناً واختباراً، لا بكدّنا ولا بجهدنا.

والنعمُ فرّارة، إن شُكِرتْ قرّت، وإن كُفِرتْ فرّت!

ورُبَّ شبعانَ اليوم يجوع غداً، ورب كاسٍ اليوم يعرى غداً، ورُب آمن اليوم يخاف غداً!

اللهم إنا نعوذ بك من تحول عافيتك، وزوال نعمتك، وفجاءة نقمتك، اللهم مُنّ علينا بالاتعاظ والاعتبار، والشكر والاستغفار.

 



([1]) ألقيت في 10/2/1435هـ.

([2]) انظر: مفتاح دار السعادة (1/208-209) بتصرف.

([3]) صحيح البخاري ح(3260)، صحيح مسلم ح(617)واللفظ له.

([4]) لطائف المعارف ص: 565 .

([5]) لطائف المعارف ص: 568 .

([6]) لطائف المعارف: (557-558) وفي هذا الكتاب فصل كامل للحديث عن فصل الشتاء (557-569) تحسن مراجعته.

([7]) تفسير البغوي (6/93).

([8]) ينظر: حلية الأولياء (3/117).