الاستثمار في الحج

QR code
د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2019-08-01 07:42:10

الاستثمار في الحج

 

حين تُذكر كلمةُ "الاستثمار"؛ لا يكاد ينصرف الذهنُ إلا إلى الاستثمار التجاري، وهو وإن كان مباحاً بنص القرآن الكريم: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾[البقرة:198]، إلا أن ثمة نفوساً عالية الهمّة تتطلع إلى ما هو أسمى وأكمل، وهو استثمار الحج فيما هو أبقى، ولهم في ذلك أفكار كثيرة، تتجدد بتجدد الحوادث، ولعل من أبزر صور الاستثمار المعروفة: الدعوة إلى الله تعالى، واستثمار هذه الأعداد الكبيرة الوافدة إلى المشاعر المقدّسة، والاستعداد لذلك بالكُتب، والمطويات، والمصاحف المترجمة، والكلمات التوعوية أثناء الموسم، واغتنام هذه الفرصة لتصحيح ما قد يوجد عند بعضِ الحجاج من مفاهيم مخالفة للاعتقاد السليم.

وثمة استثمارٌ آخر: في تحجيج مَن لم يؤدِ حجَّ الفريضة مِن قبل -سواء كانوا من أهل البلد، أم من إخواننا الوافدين- وهو من أجلِّ الأعمال، وأعلمُ عن جهودٍ كبيرة يبذلها بعضُ الإخوة ممن ليس من أهل الثراء في تحجيج الوافدين، لكنه يحمل قلباً كبيراً، ويَشعر بشوقِ هؤلاء الفقراء للحج، مع قلة ذات أيديهم؛ فيبدأ بالترتيب لهذا المشروع مِن شهر رمضان المبارك، ويأتي عليه قرابةُ الشهر لا ينام فيه إلا ثلاث ساعات في اليوم فقط! ويبلغ عددُ من يسعى لتحجيجهم أكثرَ من ألف حاجٍ سنوياً! ويسعى مع أهل اليسار والغنى لتَحمُّل نفقة هؤلاء الحجاج.

لقد تابعتُ هذا الجهدَ لبضع سنوات لهذا الرجل، وكنتُ أتساءل: كم مِن دعوةٍ تُرفع لهذا الرجل الذي ساهم في بضع سنوات في تحجيج قرابة عشرة آلاف وافد! وكم هي الأجورُ التي ينالها في سبيل ما بذل من وقته وجهده وشفاعاته! وكم هي الذِّكرى الجميلة التي ستبقى في نفوس الحجاج بعد عودتهم! مع أن من يَحُجون لا يعرفونه! ولكن الله تعالى يعلم مَن هو، وماذا بذل.

ومن صور الاستثمار: تنويعُ الصدقات والتبرعات المتعلِّقة بإطعام الحاج وسقايته.

وإن كان مِن شيء يُذكر في هذا؛ فالعنايةُ بجودة الطعام والشراب الذي يَتبرع به المحسنُ، لا أن يختار الأقلَّ سعراً على حساب الجودة، فـ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾[آل عمران: 92].

وثمة صورة من الاستثمار الأخروي في الحج: وهي صورةٌ ربما غفلنا عنها في دعوة إخواننا القادمين من أصقاع الدنيا! إنها التبسم في وجوههم؛ فتلك صدقةٌ لا تحتاج لبذل مال، بل تحتاج لخُلقٍ حسن، وروح طيبة، والميزة الأكبر لهذه الصدقة: أنها تتجازُ حدودَ اللغات، ولا تحتاج إلى مترجم، بل هي لغة ترتسم على الشفاه، وتنقلها العيونُ، وتبتهج بها القلوبُ.

ولئن كان جميعُ الحجاج من أهل هذه البلاد مخاطَبون بهذا؛ فإن القائمين على خدمة الحجيج يحتاجون إلى التوكيد على هذا بشكلٍ أكثر، بدءاً من موظف الجوازات، ومروراً ببقية رجال الأمن، والصحةِ، والخدماتِ الأخرى.

إن العامل في مثل هذا الموسم يواجه ألواناً مِن التعب غالباً ـ خاصةً من يعملون في الميدان ـ وقد تقع بعضُ المواقف التي تُثير الحفيظةَ، وتهيّج الغضبَ، فما أحرى هذا الذي شرّفه اللهُ بخدمة الحُجاج أن يتذكر أنها أيامٌ قلائل، ويعود هؤلاء الحجاج إلى بلادهم، ولا يبقى في أذهانهم -بعد ذكرى الحج السعيدة- إلا ما واجهوه من موظفي الدولة، إن خيراً فخير، وإلا فالعكس، وهي التي لا نحبها لإخواننا.

إن شعورَ العاملِ في خدمة الحجيج أنه يتعامل مع ضيوف البيت العتيق، وأن هؤلاء وفدُ الله؛ لمما يُخفِّف كثيراً من الاحتقان، ويُطفئ جمرةَ الغضب.

ولو أن العاملَ تصورَ أن هذا ضيفٌ ورَدَ عليه في بيته؛ لتحمّل منه حتى ينصرف، فضيف الرحمن، والوافد إلى البيت العتيق أولى بالاحتمال.

ومن صور الاستثمار الأخروي في الحج: مساعدة المحتاج والمنقطع، وذلك بدلالة التائه، وإطعام الجائع، وسقاية العطشان، وإيواء المنقطع حتى يجد رُفقَته، وإعطائه من النفقة ما يبلِّغه طريقَه.

ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان هؤلاء المحتاجين.

ولهؤلاء الباذلين، أهديهم هذه الكلمة العجيبة، التي قالها رجلٌ من سادات الأجواد في هذه الأمة، إنه سعيد بن العاص -رضي الله عنه- حين قال لابنه: يا بني! أخزى اللهُ المعروفَ إذا لم يكن ابتداءً من غير مسألة، فأما إذا أتاك تكاد ترى دمَه فِي وجهه، ومُخاطِراً لا يدري أتعطيه أم تمنعه! فو الله لو خرجتَ له من جميع مَالِك ما كافأتَه([1]).

أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جريرُ المَجامِع

 

 

 



([1]) تهذيب الكمال (10/ 507).

  • الكلمات الدالة
27956 زائر
0 | 0
المقال السابق

أنا

المقال التالى

مشاهدات من رحلة العمر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات