الصلاة نهر جاري

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2014-06-28 02:44:38


الصلاة نهر جاري([1])

إن الحمد لله ...، أما بعد:

فما فطر عليه الإنسان أنه إذا اتسخ ثوبه بادر لغسله، فإن لم يفعل تراكمت الأوساخ عليه حتى يسودّ.. ولا يمنعه من الغسل إلا فقر أو انتكاس في الفطرة.

وهذا القدر من الغسْل يشترك فيه المؤمن والكافر، لكنّ الشرع المطهّر نقلنا ـ كعادته ـ إلى معنى أشرف وأسمى وأعلى، إنه تنظيف الروح، وتطهير القلب، مما يَعلَق به طيلة اليوم من أوضار الذنوب والمعاصي التي يقترفها الإنسان ببصره أو سمعه أو يده أو رجله!

تأملوا في هذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من دَرَنه شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا»!([2])

فكم يخسر المفرطون في هذه الصلوات! بل كم هي عدد الأوساخ التي تعلق بهم من جراء تركها والتفريط فيها!

هبْ أنك لا تجد من يحاسبك! ولا من ينكر عليك! ألم تضايقك هذه الأوضار والأوساخ؟ إن كنت تشعر بها ولا تبالي فتلك مصيبة، وإن كنت لا تشعر بها أصلاً فالمصيبة أعظمُ!

وفي القرآن ما يجلي هذا المثل النبوي العظيم بصورة أخرى حين نسمع قول ربنا جل وعلا: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[العنكبوت: 45]!

فالصلاة ليست مجرد غاسلة فقط عند وقوع الدرن والوسخ، بل يفترض أن تكون حاجزةً عن الوقوع في الوسخ أصلاً، فإن وقع المؤمن ـ وما هو بالمعصوم ـ فإن الصلاة تغسل صغائر ذنوبه التي تَلطَّخ بها سائر اليوم، فإذا ترقّى في أدائها على الوجه المطلوب؛ كانت ناهيةً له عن الفحشاء والمنكر، عن صغار الذنوب وكبارها، فإن لم يجد ذلك في نفسه وواقعه، فليعد نظره في طريقة صلاته، فإن كلام ربنا حق لا مرية فيه.

وتأملوا معي هذه القصّة التي توضح متى تكون الصلاة نافعةً ومؤثرة:

صلى الحجاج بن يوسف مرة إلى جنب سعيد بن المسيب، قال: فجعل يرفع قبل الإمام ويضع قبله، فلما سلم الإمامُ أخذ سعيدٌ بثوب الحجاج ـ وسعيد في شيء من الذكر كان يقوله بعدما يصلي ـ قال: فجعل الحجاج يحدثه عن ثوبه ليقوم فينصرف، قال: وسعيد يجذبه ليُجلسه حتى فرغ سعيد مما كان يقول من الذكر، قال: ثم رجع بين نعليه فرفعهما إلى أو على الحجاج، وقال: يا سارق! يا خائن! تصلي هذه الصلاة؟ لقد هممتُ أن أضرب بهما وجهك! قال: ثم مضى الحجاج، وكان حاجاً ففرغ من حجه، ورجع إلى الشام، قال: ثم رجع والياً على المدينة، فلما دخلها مضى كما هو إلى المسجد، قاصداً نحو مجلس سعيد بن المسيب، فقال الناس: ما جاء إلا لينتقم منه! قال: فجاء فجلس بين يدي سعيد، فقال له أنت صاحب الكلمات؟ قال: فضرب سعيدٌ صدره بيده، وقال: أنا صاحبها! فقال له الحجاج: جزاك الله من معلم ومؤدب خيراً، ما صليتُ بعدك صلاة إلا وأنا أذكر قولك، ثم قام فمضى([3]).

هذه القصة ـ أحبتي ـ تكشف شيئاً من الداء، فهذان رجلان كلاهما صليا صلاة واحدة، لكن أحدهما وجد الأثر والآخر ليس كذلك، إنها رسالة واضحة، بأن العبرة ليست بالأداء الشكلي، يوضح ذلك حديث عمار بن ياسر في السنن، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل لينصرف وما كُتب له إلا عُشر صلاته تُسعها ثُمنها سُبعها سُدسها خُمسها رُبعها ثُلثها نِصفها».([4])

وفي سنن الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «أول علم يرفع من الناس الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد جماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً!».([5])

هنا يتضح الداء والدواء، إنه فقْد أو ضعف الخشوع، ولن تُحقق الصلاةُ أثرها في كونها ناهية عن الفحشاء والمنكر إلا بعودة الصلاة إلى حيث أمر الله بها أن تقام، وليس مجرد أداء.

إن قيام الأمة بالصلاة حقاً هو أحد أركان عودة عزتها وقيادتها، بل هذا عام في الأ مم كلها، تأمل معي هذه الآيات:

 ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾[المائدة: 12]

وتأمل هذه بقلب واعٍ: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾[الحج: 41].

بل لن نتمكن من أعدائنا ورفع الذل عن أمتنا حتى نحب الصلاة كما أحبها الصحابة، استمع إلى جابر بن عبدالله رضي الله عنهما وهو يحدثنا هذا الحديث العجيب، فيقول: غزونا مع رسول الله  صلى الله عليه وسلم قوماً من جهينة، فقاتلونا قتالاً شديداً، فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقالوا: إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد"([6])، أتدري ما منزلة الولد من القلب؟!

إنها منزلة تفوق الوصف، وتنبو عن البيان، ومع ذلك يقول المشركون هذه الكلمة وهم في منأىً عن المسلمين، يقولونها وهم يسمعون عن عنايتهم بالصلاة واهتمامهم بها فقط، فكيف بهم لو كانوا يعيشون وسط المسلمين؟! أم كيف بهم لو ذاقوا لذتها؟!

نعم أيها المصلون .. فالصلاة في حياة المؤمنين الصادقين تتجاوز هم الأداء، وتترفع عن الخوف من تبعات التفريط فحسب، لترتقي إلى مقامات الأنس والتلذذ.

فإن قلتَ: كيف نصل إلى هذه المرحلة، فالجواب عنه في الخطبة الثانية إن شاء الله.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


 

الخطبة الثانية

الحمد لله ... أما بعد:

فيا معشر المصلين، لكأني بأصحاب الهمم العلية يتساءلون: كيف نصل إلى هذه المرحلة من الحب للصلاة؟ وهذا سؤال عظيم، وجوابه أعظم، لكن دونك هذه الأسباب المجملة التي تعين على الوصول إلى هذه المرحلة:

السبب الأول: التفكر في عظيم النعم التي أحاطك الله بها، وغذاك بها، وأنك محتاج إلى شكرها، وأنك ما شكرت الله بمثل العمل الصالح: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾[سبأ: 13]، وخير هذه الأعمال الصلاة، وتذكر وأنت تؤدي هده الشعيرة العظيمة قوله صلى الله عليه وسلم: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟»([7])

السبب الثاني: أن تدخل على الصلاة وأن تنظر إلى أنها فرصةٌ للدخول على الرب عز وجل، تدخل وأنت مغتبط بذلك، فرحٌ، ولا تكن ممن يدخل فيها وهو يشعر أنها حملٌ ثقيل يريد إلقاءه عن كاهله، أو يؤديها للتخلص فقط من تبعة التكليف، فإن مَنْ هذه حاله فلذة الصلاة أبعد عليه من الثريا.

قال بكر بن عبدالله المزني رحمه الله مصوراً هذا الفخر والسرور: مَن مِثلك يا ابن آدم؟! خُلِّي بينك وبين المحراب، تدخل منه إذا شئت على ربك، وليس بينك وبينه حجاب، ولا ترجمان، إنما طِيب المؤمنين هذا الماء -يقصد الوضوء-([8]).

السبب الثالث -مما يعين على ذوق هذه اللذة-: الإكثار من قراءة سِيَر الصالحين، من العلماء والعباد.

السبب الرابع: أن تعيش الشعور بأن الصلاة في حياتك ليست مجرد تكليف تحطه عن كاهلك، بل هي ضرورة لا تستقيم حياتك بدونها، بل أن تشعر أن بُعدَك عن الصلاة كبُعد السمكة عن الماء .. وتربية النفس على هذا تحتاج إلى جهاد ومجاهدة، يقول ثابت البناني وهو يعبِّر عن مجاهدته لنفسه: كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعّمت بها عشرين سنة.([9])

السبب الخامس: البعد عن المعاصي، ومجاهدة النفس على ذلك، خاصة ما يتعلق بالنظر المحرم، فإن الصور -ولو كانت مباحة- إذا كثرت على القلب شوشت عليه فضَعُف، فكيف إذا كانت محرمة، فهي مع تشويشها تُسبِّب ظلمة في القلب، فتكون المجاهدة أشد!

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، ونسألك باسمك الأعظم الذي إذا دُعيت به أجبت، وإذا سُئلت به أعطيت، أن تجعل الصلاة قرة عيوننا، وراحة قلوبنا، ومفزعنا في كروبنا.

اللهم اجعلها في قلوبنا كما جعلتها في قلوب أصحاب نبيك رضوان الله عليهم، اللهم اجعلها أحب إلينا من أولادنا!



([1]) ألقيت في 19/1/1435هـ.

([2]) صحيح مسلم ح(667).

([3]) تاريخ دمشق لابن عساكر (12/ 119).

([4]) سنن أبي داود ح(796).

([5]) سنن الترمذي ح(2653).

([6]) صحيح مسلم ح(840).

([7]) صحيح البخاري ح(1130)، صحيح مسلم ح(2819).

([8])حلية الأولياء (2/229).

([9]) حلية الأولياء 2/321 .