تهذيب كلام ابن رجب -رحمه الله- عن شهر الله المحرم

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2019-09-01 05:25:00

تهذيب كلام ابن رجب -رحمه الله- عن شهر الله المحرم في "لطائف المعارف"

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة.

ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛ فصولٌ تناول فيها الحديث عن شهر الله المحرم، إلا أنه -كعادته :- يستطرد في بعض المسائل التي قد لا ينشط لها إلا طلاب العلم، وقد تحول هذه الاستطرادات دون انتفاع عموم المسلمين منه، فكانت الرغبة في تقريب فوائده من خلال هذه الفصول التي تتعلق بهذا الشهر الحرام؛ لمسيس الحاجة إليه([1]).

وقد علّقتُ في بعض المواضع بتعليقات قليلة، صدّرتها -في الحاشية- بـ(قلتُ).

وتركتُ التخريج للأحاديث؛ لأنه مستوفى في الأصل في الطبعة التي حققها الأستاذ ياسين السواس (ط.دار ابن كثير)، إلا ما لم يخرِّجّه فإني أذكر تخريجه باختصار.


 

قال :: "وظائف شهر الله المحرم:

خرّج مسلمٌ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تَدْعونه المحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل))، الكلام على هذا الحديث في فصلين في أفضل التطوع: بالصيام وأفضل التطوع: بالقيام.

وهذا الحديث صريح في أن أفضل ما تُطُوِّعَ به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم، وقد يحتمل أن يراد: أنه أفضل شهر تُطُوِّعَ بصيامه كاملاً بعد رمضان، فأما بعض التطوع ببعض شهرٍ فقد يكون أفضل من بعض أيامه -كصيام يوم عرفه أو عشر ذي الحجة أو ستة أيام من شوال ونحو ذلك- ويشهد لهذا ما خرجه الترمذيُّ من حديث علي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرني بشهر أصومه بعد شهر رمضان؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن كنتَ صائماً شهراً بعد رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله، وفيه يومٌ تاب الله فيه على قومٍ ويتوب على آخرين)) وفي اسناده مقال.

ولكن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شهرَ شعبان ولم يُنقل أنه كان يصوم المحرم، إنما كان يصوم عاشوراء، وقوله في آخر سنة: ((لئن عشتُ إلى قابِل لأصومنَّ التاسع)) يدل على أنه كان لا يصوم التاسع قبل ذلك، وقد أجاب الناسُ عن هذا السؤال بأجوبة فيها ضعف.

والذي ظهر لي -والله أعلم- أن التطوع بالصيام نوعان:

أحدهما: التطوع المطلق بالصوم؛ فهذا أفضله المحرم، كما أن أفضل التطوع المطلق بالصلاة قيامُ الليل.

والثاني: ما صيامه تَبَع لصيام رمضان قَبله وبعده، فهذا ليس من التطوع المطلق، بل صيامه تَبَع لصيام رمضان، وهو ملتحق بصيام رمضان؛ ولهذا قيل: إن صيام ستةَ أيامٍ من شهر شوال يلتحق بصيام رمضان، ويُكتب بذلك لمن صامها مع رمضان صيام الدهر فرضاً.

وقد رُوي أن أسامة بن زيد كان يَصوم الأشهر الحرم، فأمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بصيامِ شوال فترك الأشهرَ الحُرُمَ وصام شوالاً، وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى، فهذا النوع من الصيام ملتحق برمضان، وصيامه أفضل التطوع مطلقاً.

فأما التطوع المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرم، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلاً أن يصوم الحُرُم، وسنذكره في موضعٍ آخر إن شاء الله تعالى.

وأفضل صيام الأشهر الحرم شهر الله المحرم، ويَشهد لهذا أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث: ((وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل)) ومراده بعد المكتوبة: ولواحقها من سننها الرواتب، فإن الرواتب قبلَ الفرائض وبعدها أفضل من قيام الليل عند جمهور العلماء؛ لالتحاقها بالفرائض، فكذلك الصيام قبل رمضان وبعده ملتحقٌ برمضان وصيامه أفضل من صيام الأشهر الحرم، وأفضل التطوع المطلق بالصيام صيام المحرم.

وقد اختلف العلماءُ في أيِّ الأشهر الحرم أفضل؟

فقال الحسن وغيره: أفضلها شهر الله المحرم، ورجحه طائفةٌ من المتأخرين.

وقال سعيد بن جبير وغيره: أفضلُ الأشهر الحرم: ذو القعدة، أو ذو الحجة بل قد قيل: إنه أفضل الأشهر مطلقاً.

وزعم بعض الشافعية أن أفضل الأشهر الحرم: رجب، وهو قول مردود.

وأفضل شهر الله المحرم عشْرُه الأُوَل، وقد زعم يمانُ بن رآب: أنها العَشْر التي أقسم الله بها في كتابه، ولكن الصحيح: أن العشر المقسم بها عشر ذي الحجة.

وقال أبو عثمان النهدي: كانوا يُعظمِّون ثلاث عَشْرات: العَشْر الأخيرة من رمضان، والعَشْر الأُوَل من ذي الحجة، والعَشْر الأُوَل من محرّم.

وقد وقع هذا في بعض نُسَخ كتاب فضائل العَشر لابن أبي الدنيا عن أبي عثمان عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه "كان يعظِّم هذه العشرات الثلاث"، وليس ذلك بمحفوظ.

وقد قيل: إنها العشر التي أتم الله بها ميقات موسى عليه السلام أربعين ليلة، وإن التكلم وقع في عاشرها.

ولما كانت الأشهر الحُرُم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقاً، وكان صيامها كلها مندوباً إليه، كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعضُها ختام السنة الهلالية وبعضها مفتاحاً لها، فمن صام شهر ذي الحجة -سوى الأيام المحرم صيامها منه- وصام المحرم؛ فقد ختم السنةَ بالطاعة وافتتحها بالطاعة، فيُرجى أن تُكتَب له سنتُه كلها طاعة، فإن من كان أول عملِه طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العمَلَين.([2])

قال ابن المبارك: مَن ختم نهارَه بذِكرٍ كُتِب نهارُه كلُّه ذِكْراً، يشير إلى أن الأعمال بالخواتيم، فإذا كان البداءة والختام ذكراً؛ فهو أولى أن يكون حُكْم الذكر شاملاً للجميع.

ويتعين افتتاح العام بتوبة نصوح تمحو ما سلف من الذنوب السالفة في الأيام الخالية.([3])

وقد سمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم المحرم شهرَ الله، وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواصّ مخلوقاته، كما نَسَب محمداً وإبرهيم وإسحاق ويعقوب وغيرَهم من الأنبياء إلى عبوديته، ونَسَب إليه بيتَه وناقتَه.

ولما كان هذا الشهر مختصاً بإضافته إلى الله تعالى؛ كان الصيامُ مِن بين الأعمال مضافاً إلى الله تعالى -فإنه له مِن بين الأعمال- ناسَب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام.

وقد قيل -في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله عز وجل-: إنه إشارةٌ إلى أن تحريمه إلى الله عز وجل ليس لأحد تبديله، كما كانت الجاهلية يحلُّونه ويحرِّمون مكانه صَفَرَاً، فأشار إلى شهر الله الذي حرَّمه فليس لأحدٍ من خلقه تبديل ذلك وتغييره.

الصيام سِرُّ بين العبد وبين ربه، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: ((كلّ عملِ ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به؛ إنه ترك شهواته وطعامه وشرابه من أجلي))، وفي الجنة بابٌ يُقال له: (الريان)، لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا أُغلِق فلم يَدخل منه غيرُهم، وهو جنة للعبد من النار كجنة أحدكم من القتال.

وفي المسند أن أبا أمامة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصِني؟ قال: ((عليك بالصوم فإنه لا عِدْل له)) فكان أبو أمامة وأهله يصومون، فإذا رُؤي في بيتهم دخان بالنهار عُلِم أنه قد نزل بهم ضيف.

وممن سرد الصوم عمر وأبو طلحة وعائشة وغيرهم من الصحابة وخلق كثير من السلف، وممن صام الأشهر الحرم كلها: ابنُ عمر والحسن البصري وغيرهما.

قال الله تعالى: ﴿وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب: 35]، وقال تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾[الحاقة:24] قال مجاهد وغيره: نزلت في الصوم: مَن ترك لله طعامَه وشرابَه وشهواتِه عوَّضه اللهُ خيراً مِن ذلك طعاماً وشراباً لا ينفد، وأزواجاً لا تموت.

ولما كان الصيامُ سراً بين العبدِ وبين ربِّه؛ اجتهدَ المخلِصون في إخفائه بكل طريق حتى لا يَطَّلع عليه أحد.

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا أصبح أحدُكم صائماً فليترجَّل -يعني يسرِّح شعره ويدهنه- وإذا تصدَّق بصدقةٍ عن يمينه فليخفها عن شماله، وإذا صلى تطوعاً فليصل داخلَ بيته.

كم يستر الصادقون أحوالَهم، وريح الصدقِ يَنِمّ عليهم، ما أسرّ أحدٌ سريرةً إلا ألبسه اللهُ رداءَها علانيةً.([4])

 

المجلس الثاني في يوم عاشوراء.

في الصحيحين عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه سئل عن يوم عاشوراء فقال: "ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صامَ يوماً يتحرى فضلَه على الأيام إلا هذا اليوم يعني: يوم عاشوراء، وهذا الشهر: يعني رمضان"([5]).

يوم عاشوراء له فضيلة عظيمة، وحُرمة قديمة، وصومه لفضله كان معروفاً بين الأنبياء عليهم السلام.

ورُوي عن إبراهيم الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوم عاشوراء كانت تصومه الأنبياء فصوموه أنتم" خرجه بقي بن مخلد في مسنده([6]).

وقد كان أهل الكتاب يصومونه، وكذلك قريش في الجاهلية كانت تصومه.

وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في صيامه أربع حالات:

الحالة الأولى: أنه كان يصومُه بمكةَ ولا يأمر الناسَ بالصوم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عاشوراء يوماً تصومُه قريشٌ في الجاهلية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما قدِم المدينة صامَه وأمَرَ بصيامه، فلما نزلت فريضةُ شهرِ رمضان كان رمضانُ هو الذي يصومه، فترك يوم عاشوراء؛ فمَن شاء صامَه ومَن شاء أفطره" وفي روايةٍ للبخاري: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن شاء فليصمْه، ومن شاء أفطر)).

الحالة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قَدِم المدينةَ ورأى صيامَ أهلِ الكتاب له وتعظيمَهم له، وكان يُحِب موافقتَهم فيما لم يؤمَر به؛ صامَه وأمر الناسَ بصيامه، وأكّد الأمرَ بصيامِه والحثِّ عليه، حتى كانوا يصوِّمُونه أطفالَهم، ففي الصحيحين عن ابن عباس قال: قدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ فوجدَ اليهودَ صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ أنجى الله فيه موسى وقومَه، وأغرق فرعونَ وقومه؛ فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم))، فصامه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأمَرَ بصيامه.([7])

وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود قد صاموا عاشوراء فقال: ((ما هذا من الصوم))؟! قالوا: هذا اليوم الذي نجّى اللهُ عز وجل موسى عليه السلام وبني إسرائيل من الغرق، وغرّق فيه فرعونَ، وهذا يوم استوتْ فيه السفينةُ على الجوديّ فصام نوح وموسى عليهما السلام شكراً لله عز وجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم)) فأمر أصحابه بالصوم.([8])

وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً مِن أسلم: أنْ أذِّن في الناس: ((مَن أكل فليصم بقيةَ يومِه، ومن لم يكن أكل فليصم؛ فإن اليومَ يومُ عاشوراء))([9]).

وفيهما –أيضا- عن الرُّبيِّع بنت معوّذ قالت: أرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: ((من كان أصبح صائماً فليُتِم صومَه، ومن كان أصبح مفطراً فليُتِم بقيةَ يومِه)) فكنا بعد ذلك نصومُه ونصوِّم صبياننا الصغار منهم، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبةَ من العِهن، فإذا بكى أحدُهم على الطعام أعطيناه إياها، حتى يكون عند الإفطار، وفي روايةٍ -عند مسلم-: فإذا سألونا الطعامَ أعطيناهم اللعبة نلهيهم حتى يتموا صومهم.([10]) وفي الباب أحاديث كثيرة جداً.

وقد اختلف العلماء: هل كان صومُ يومِ عاشوراء قبل فرض شهر رمضان واجباً أم كان سنةً متأكدة؟ على قولين مشهورين.

ومذهبُ أبي حنيفة أنه كان واجباً حينئذ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، وأبي بكر الأثرم.

وقال الشافعي: بل كان متأكد الاستحباب فقط، وهو قول كثيرٍ من أصحابنا وغيرِهم.

الحالة الثالثة: أنه لما فُرِض صيامُ شهر رمضان ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمْرَ الصحابة بصيام عاشوراء وتأكيده فيه، وقد سبق حديثُ عائشة في ذلك.

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صام النبيُّ صلى الله عليه وسلم عاشوراءَ وأمر بصيامه، فلما فُرِض رمضان ترك ذلك. وكان عبدالله لا يصومه إلا أن يوافق صومَه. وفي رواية لمسلم: إن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامَه والمسلمون قبل أن يُفرَض رمضان، فلما فُرِض رمضانُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عاشوراء يومٌ من أيام الله؛ فمن شاء صامَه ومن شاء ترَكَه)). وفي رواية له أيضا: ((فمن أحب منكم أن يصومه فليصمْه، ومن كره فليدَعْه)).([11])

وفي الصحيحين أيضا عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامَه، وأنا صائمٌ، فمن شاء فليصم ومن شاء فليُفطِر))([12]). وفي رواية لمسلم التصريح برفع آخره، وفي رواية للنسائي أن آخره مدرج من قول معاوية وليس بمرفوع.

فهذه الأحاديث كلُّها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجدِّد أمرَ الناس بصيامه بعد فرض صيام شهر رمضان، بل تركهم على ما كانوا عليه من غير نهي عن صيامه، فإن كان أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم بصيامه قبل فرض صيام شهر رمضان للوجوب؛ فإنه ينبني على أن الوجوب إذا نُسخ فهل يبقى الاستحباب أم لا؟ وفيه اختلاف مشهور بين العلماء رضي الله عنهم.

وإن كان أمْرُه للاستحباب المؤكد؛ فقد قيل: إنه زال التوكيد وبقي أصل الاستحباب، ولهذا قال قيس بن سعد: ونحن نفعله.

وقد روي عن ابن مسعود وابن عمر -رضي الله عنهما- ما يدل على أن أصل استحباب صيامه زال.

وقال سعيد بن المسيب: لم يصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء، وروي عنه عن سعد بن أبي وقاص، والمرسل أصح([13]). قاله الدارقطني.

وأكثر العلماء على استحباب صيامه من غير تأكيد، وممن رُوي عنه صيامُه من الصحابة: عمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وأبو موسى وقيس بن سعد وابن عباس وغيرهم.

ويدل على بقاء استحبابه: قول ابن عباس رضي الله عنهما: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوماً يتحرى فضلَه على الأيام إلا يوم عاشوراء، وشهر رمضان.

وابنُ عباس إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم بآخِرَة، وإنما عَقَل منه صلى الله عليه وسلم مِن آخر أمرِه.

وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء؟ فقال: ((أحتَسب على الله أن يكفِّر السنةَ التي قبله))([14])، وإنما سأله عن التطوع بصيامه، فإنه سأله أيضاً عن صيام يوم عرفة، وصيام الدهر، وصيام يوم وفطر يوم، وصيام يوم وفطر يومين، فعُلِمَ أنه إنما سأله عن صيام التطوع.

الحالة الرابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم في آخر عمره على أن لا يصومه مفرداً بل يضم إليه يوماً آخر، مخالفةً لأهل الكتاب في صيامه.

ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال -حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه- قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظِّمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان العام المقبل -إن شاء الله- صمْنا اليومَ التاسع)) قال: فلم يأت العامُ المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.([15]) وفي رواية له أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لئن بقيتُ إلى قابِل لأصومنَّ التاسعَ مع العاشرَ)) يعني: عاشوراء.([16])

وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود؛ صوموا قبله يوماً وبعده يوماً" وجاء في رواية: "أو بعده"، فإما أن تكون "أو" للتخير أو يكون شكاً من الراوي: هل قال قبله أو بعده([17]).

وروي هذا الحديث بلفظ آخر وهو: "لئن بقيتُ لآمُرنّ بصيام يوم قبله ويوم بعده"، يعني: عاشوراء.

وفي رواية أخرى: "لئن بقيتُ إلى قابل لأصومَن التاسع، ولآمرن بصيام يومٍ قبله ويومٍ بعده"، يعني: عاشوراء. أخرجهما الحافظ أبو موسى المديني.

وقد صح هذا عن ابن عباس من قوله، من رواية ابن جريج قال: أخبرنا عطاء أنه سمع ابن عباس يقول في يوم عاشوراء: خالفوا اليهود؛ صوموا التاسع والعاشر، قال الإمام أحمد: أنا أذهب إليه.

وروي عن ابن عباس: أنه صام التاسع والعاشر، وعلل بخشية فوات عاشوراء.

وروى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس: أنه كان يصوم عاشوراء في السفر، ويوالي بين اليومين خشية فواته.

وكذلك روي عن ابن اسحاق: أنه صام يوم عاشوراء ويوماً قبله ويوماً بعده وقال: إنما فعلتُ ذلك خشية أن يفوتني.

وروي عن ابن سيرين أنه كان يصوم ثلاثة أيام عند الاختلاف في هلال الشهر؛ احتياطاً.

وروي عن ابن عباس والضحاك أن يوم عاشوراء هو تاسع المحرَّم. قال ابن سيرين: كانوا لا يختلفون أنه اليوم العاشر، إلا ابن عباس فإنه قال: إنه التاسع!

وقال الإمام أحمد -في رواية الميموني-: لا أدري هو التاسع أو العاشر، ولكن نصومهما، فإن اختلف في الهلال صام ثلاثة أيام احتياطاً، وابن سيرين يقول ذلك.

وممن رأى صيام التاسع والعاشر: الشافعي وأحمد واسحاق، وكره أبو حنيفة إفراد العاشر بالصوم.

وروى الطبراني من حديث ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد، عن أبيه قال: ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقول الناس! إنما كان يومٌ تُستَر فيه الكعبة، وتَقْلِسُ فيه الحبشة([18])، عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدور في السنة، فكان الناس يأتون فلاناً اليهودي يسألونه، فلما مات اليهودي أتوا زيد بن ثابت فسألوه.

وهذا فيه إشارة إلى أن عاشوراء ليس هو في المحرَّم، بل يحسب بحساب السنة الشمسية كحساب أهل الكتاب، وهذا خلاف ما عليه عمل المسلمين قديماً وحديثاً، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَعُدُّ من هلال المحرّم، ثم يصبح يوم التاسع صائماً([19])، وابن أبي الزناد لا يُعتمد على ما ينفرد به، وقد جعل الحديث كله عن زيد بن ثابت، وآخره لا يصلح أن يكون من قول زيد، فلعله من قول من دونه، والله أعلم.

وكان طائفةٌ من السلف يصومون عاشوراء في السفر، منهم: ابن عباس وأبو اسحاق والزهري، وقال([20]): رمضان له عِدّة من أيام أُخَر، وعاشوراء يفوت، ونص أحمد على أن يصام عاشوراء في السفر.

وروى عبد الرزاق في "المصنَّف" عن طاوس أنه كان يصوم عاشوراء في الحضر ولا يصومه في السفر.([21])

ومن أعجب ما ورد في عاشوراء: أنه كان يصومه الوحشُ والهوامُّ! وقد روي مرفوعاً، ولا يصح.

 

وقد روي: إن عاشوراء كان يوم الزينة الذي كان فيه ميعاد موسى لفرعون، وأنه كان عيداً لهم.

ويروى أن موسى عليه السلام كان يلبس فيه الكتان، ويكتحل فيه بالإثمد.

وكان اليهود من أهل المدينة وخيبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذونه عيداً، وكان أهلُ الجاهلية يقتدون بهم في ذلك، وكانوا يستُرون فيه الكعبة، ولكن شرعُنا ورد بخلاف ذلك، ففي الصحيحين عن أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء يوماً تعظِّمه اليهود وتتخذه عيداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموه أنتم))([22])، وفي رواية لمسلم: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً، ويُلبِسون نساءهم فيه حليهم وشارَتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فصوموه أنتم))([23])، وخرجه النسائي وابن حبان، وعندهما: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوهم فصوموه))([24])، وهذا يدل على:

-       النهي عن اتخاذه عيداً.

-       وعلى استحباب صيام أعياد المشركين؛ فإن الصوم ينافي اتخاذه عيداً، فيوافقون في صيامه مع صيام يومٍ آخر معه -كما تقدم- فإن في ذلك مخالفة لهم في كيفية صيامه أيضاً، فلا تبقى فيه موافقة لهم في شيء بالكلية.

وعلى مثل هذا يحمَل ما خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان من حديث أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: "إنهما يوما عيدٍ للمشركين؛ فأنا أُحِب أن أخالفهم"، فإنه إذا صام اليومين معاً خرج بذلك عن مشابهة اليهود والنصارى في تعظيم كل طائفة ليومها منفرداً، وصيامُه فيه مخالفة لهم في اتخاذه عيداً، ويُجمَع بذلك بين هذا الحديث وبين حديث النهي عن صيام يوم السبت.

وكل ما رُوي في فضل الإكتحال في يوم عاشوراء والإختضاب والإغتسال فيه فموضوع لا يصح.

وأما الصدقة فيه: فقد روي عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: من صام عاشوراء فكأنما صام السنة، ومن تصدق فيه كان كصدقة السنة([25])، أخرجه أبو موسى المديني.

وأما التوسعة فيه على العيال: فقال حرب: سألت أحمد عن الحديث الذي جاء: "من وسع على أهله يوم عاشوراء" فلم يره شيئاً.

وقول حرب أن أحمد لم يره شيئاً؛ إنما أراد به الحديث الذي يُروَى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يصح إسناده.

وقد روي من وجوه متعددة لا يصح منها شيء، وممن قال ذلك: محمد بن عبدالله بن عبد الحكم، وقال العقيلي: هو غير محفوظ، وقد روي عن عمر من قوله، وفي إسناده مجهول لا يُعرَف.

وأما اتخاذه مأتماً: كما تفعله الرافضة؛ لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، فهو من عملِ مَن ضلّ سعيُه في الحياة الدنيا، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً، فكيف بمن دونهم!

·                    ومن فضائل يوم عاشوراء:

-                   أنه يومٌ تاب الله فيه على قوم، وقد ورد فيه حديث علي -الذي خرجه الترمذي- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "إن كنت صائماً شهراً بعد رمضان فصم المحرم؛ فإن فيه يوماً تاب الله على قوم ويتوب فيه على آخرين".

وقد صح من حديث ابن اسحاق، عن الأسود بن يزيد قال: سألت عبيد بن عمير عن صيام يوم عاشوراء؛ فقال: المحرم شهر الله الأصم! فيه يومٌ تيب فيه على آدم، فإن استطعتَ أن لا يمر بك إلا صمته.

وروي فيه آثارٌ عن بعض الصحابة، وأنه يوم تيب فيه على قوم كذا وكذا، ولا يصح منها شيء([26]).



([1]) سبق أن أفرد الشيخ عبدالرحمن ابن قاسم الفصول المتعلقة بشهر رمضان، وهذّبها، كما استفاد منها كثيراً الشيخ إبراهيم ابن عبيد في كتابه الشهير "عقود اللؤلؤ والمرجان"، رحمة الله عليهما.

([2]) قلتُ: وما قرره الحافظُ ابن رجب رحمه الله مبنيٌّ على اختيار التوقيت الذي اصطلح عليه أميرُ المؤمنين عمر، واتفاق الصحابة رضي الله عنهم، وليس فيه دلالة على البداية والنهاية المتعلقة بالأعمال، والله أعلم.

([3]) قلتُ: يقال في هذا ما قيل في التعليق السابق، فَربْطُ التوبةَ بأول العام أو آخرة يحتاج إلى دليل خاص، بل التوبة وظيفة العمر -كما قال ابن رجب :- والله.

([4]) ذكر الحافظ ابن رجب هنا فصلاً كاملاً -وهو الفصل الثاني- وتحدث فيه عن قيام الليل، ولما كان قيام الليل غير مختص بشهر محرم، حذفته.

([5]) البخاري ح(2006)، مسلم ح(1132).

([6]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ح(9355)، وإسناده ضعيف؛ لأن فيه: إبراهيم بن مسلم الهجري، وهو ليّن الحديث. والمحفوظ في الصحيحين: أن الذي صامه موسى وقومُه فحسب.

([7]) البخاري ح(3397)، مسلم ح(1130).

([8]) مسند أحمد ح(8717).

([9]) البخاري ح(2007)، مسلم ح(1135).

([10]) البخاري ح(1960)، مسلم ح(1136).

([11]) مسلم ح(1126).

([12]) البخاري ح(2003)، مسلم ح(1129).

([13]) قلتُ: يريد أن المروي عن سعيد ابن المسيّب أصح من الموصول عنه صلى الله عليه وسلم من رواية سعد رضي الله عنه.

([14]) مسلم ح(1162).

([15]) مسلم ح(1134).

([16]) مسلم ح(1134).

([17]) قلتُ: ورواية الجمع بين اليوم قبله وبعده لا تصح، فهي من أوهام محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، سيء الحفظ جداً.

([18]) قلتُ: تقلس، أي: تضرب فيه بالدف، والمقلّسون هم الذين يلعبون بين يدي الأمير إذا وصل البلد، كما في "النهاية" لابن الأثير (4/ 100).

([19]) مسلم ح(1133)

([20]) أي: الزهري.

([21]) قلت: الذي وجدتُ في مصنف عبدالرزاق برقم(7847) أنه ابن عمر ولم أجده عن طاوس!

([22]) البخاري ح(2005)، مسلم ح(1131).

([23]) مسلم ح(1131).

([24]) البخاري ح(2005)، مسلم ح(1131).

([25]) قلتُ: ولم أقف على سند له، ولا أظنه يصح، بل الظن أنه مما رواه عبدالله عن أهل الكتاب -إن صح السند إليه-.

([26]) قلتُ: هذه الجملة الأخيرة: "وروي فيه آثارٌ عن بعض الصحابة، وأنه يوم تيب فيه على قوم كذا وكذا، ولا يصح منها شيء" هي من لفظي، لخّصتُ فيها ما يُفهم من كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله.

  • الكلمات الدالة
53878 زائر
1 | 0
المقال السابق
المقال التالى

روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات