خطوات في طريق السعادة الزوجية (الجزء الثاني)

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2016-04-08 06:37:48

خطوات في طريق السعادة الزوجية (الجزء الثاني) ([1])

 

إن الحمد لله...، أما بعد:

فقد كان الحديث في الجمعة الماضية مخصصاً عن بعض الأخطاء التي تُرْتكب في بداية بناء عشّ الزوجية، مما يتسبب إهمالها في تنغيص الحياة الزوجية، وتقليص مساحة السعادة فيها..وهذه الأخطاء يشترك في التلبّس بها الخاطبُ والمخطوبةُ ووليُّها، وأهلُ الزوجين جميعًا.

وفي هذا اليوم نشير إلى بعض الخطوات المتمّمة لحديثنا السابق؛ علّها تكون سبباً في الدلالة على تحقيق السعادة الزوجية، إذْ ما رفرفت السعادةُ الزوجية على بيتٍ إلا وظهر أثرُها على أفراده في الأُلفة والتقارب بينهم، ونجاحهم في حياتهم، والعكس صحيح.

ولقد اطلعتُ ـ وأنا أُعِدّ لهذا الموضوع ـ على أكثر من أربع دراسات أُجريتْ على دُوْر الأحداث الاجتماعية، فإذا هي تُثبت بالأرقام أن معظمَ الجانحين الذين آوتهم هذه الدُّور ينتمون إلى أسرٍ مفكّكة!

وتقول إحدى الدراسات الحديثة التي أُجريت في مدينة الرياض: إن 25% من نزلاء تلك الدار يعانون من مشاكل أسرية.

إذا تبيّن هذا ـ يا عباد الله ـ فحريٌّ بموضوعٍ كهذا أن تُفرد له الخطبُ والمحاضرات والدروس، فالأسرة هي النواةُ الأهمّ في المجتمع، فإذا صلُحتْ صلُح المجتمع، وإذا فسدت فسد، ولهذا ركّز الأعداءُ هجماتهم الإعلامية والفكرية على هذا البناء الخطير، الذي إذا انهارَ انهار معه المجتمع، ومن ثمَّ فلن تنتظر الأمّةُ أجيالاً تحمل الرسالة، وتقوم بواجب الأمانة الملقى على عاتقها.

أيها المسلمون: ولكي تبقى أعلامُ السعادةِ مرفرفةً على تلك البيوت، فعليها أن تُراعي أموراً، من أهمها:

أولاً: الاعتدال في المهور: فلا إفراط ولا تفريط، والموجود اليوم في واقعنا القريب، قد لا يكون ارتفاعًا في ذات المبلغ النقدي الذي يُدفع نقدا أو بشيكٍ لولي المرأة، لكن في التَّبِعات التي تَلحق الاستعدادَ للزواج؛ بَدءًا من استئجار الصالة، ومرورًا بألوان الحلويات والبوفيهات المفتوحة، وغيرها من التّبِعات الثقيلة.

فإن قلتَ: وما شأن تخفيف المهر بالسعادة الزوجية؟ فيقال: إن شاباً أُثقِل كاهلُه بجمعِ الأموال الطائلة ـ وقد يكون أكثرها ديون وأقساط ـ سيبدأ حياتَه بنظرة مثالية، وزوجةٍ يَرى فيها كمالاً بشريًا، وحينما تمضي أيامُ الزواج الأولى، ويظهر من الزوجة تقصيرٌ في شأنٍ من شئون الحياة الزوجية؛ فسيغضب الزوج، وسيقول بلسان الحال أو المقال: خسرتُ كذا وكذا عليكِ! وأنفقتُ من المال لأجلك، ثم أنت تفعلين وتفعلين؟! يردّد هذه الجملة عند كل تقصير، وهو يتخيل شبحَ ملاحقةِ الدائنين، عندها سيزدادُ الأمرُ سوءاً: الديون من جهة! والنقص الذي يراه من زوجته يضغط عليه من جهة أخرى! فقد يطلّق، أو يضغط عليها لتطلب الخلع، أو يبقى  في نزاعٍ دائم وشقاق.

كل هذا سيخفُّ أو يتلاشى ـ بعون الله ـ إذا تمت أمورُ الزواج بيسر ونفقاتٍ معتدلة، فإن الزوج وإن وجد عيباً أو رأى تقصيراً؛ فستكون طريقته في حلّ المشاكل مختلفة، وسيتذكر فضلَ وليّ زوجته عليه حين طلب مهرًا معقولا، وأكرَمه بتزويج بنته، وفي الأثر: "خير النكاح أيسره"([2]) إذن.. فالاعتدال في المهور، وتخفيف تكاليف الزواجِ خطوةٌ في طريق السعادة الزوجية.

ثانيا: ومن الخطوات المهمّة في تحقيق السعادة الزوجية: معرفة كلٍّ من الزوجين ما له من حقوق، وما عليه من واجبات: والجامع لهذا كلّه قولُه تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾[البقرة: 228]، وقولُه تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[النساء: 19].

ونصوص الشريعة تدل على أن الحقوق ثلاثة:

-                حقوقٌ للزوج على زوجه: كالقِوامة، والطاعة بالمعروف، وأن لا تصوم وزوجُها شاهِد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه، وخدمتِه ما دامت تَقدِر، وأن تحافظ على ماله، وترعاه في أولاده وبيته إذا غاب: ﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّه﴾[النساء: 34].

-                وللزوجة حقوق على زوجها: أولها المهر، والنفقة والسكن، والمعاشرة بالمعروف، وحسن الخلق "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهله"([3])، وتعليمها دينها إذا كانت تجهل شيئاً منه مما هو فرض في حقها، ومن حقوقها: الغيرةُ عليها، ومنعها من مواطن الريب، أو الاختلاط بأقاربه من الرجال، فـ"الحمو الموت" ـ كما قال صلى الله عليه وسلم([4]).

ومن حقوقها ـ عند تفاقم المشاكل وعدم القدرة على المواصلة ـ ما قاله الله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾[البقرة: 229].

ولها على الزوج حقُّ المبيت والمعاشرة، وهذا الحقُّ من الحقوق التي يَقع الخللُ في أدائها من قِبَل بعض الأزواج، وقد كثرت الشكوى منه، فظهر أثرُه على تفكّك الأسرة، وضياع حقوقٍ أخرى.

أليس من المحزن أن تَرى الزوجَ يركض في دنياه لاهثاً، فإذا جاء الليلُ فبدلاً من أن يعوّض أولادَه وزوجتَه ما فات من وقتٍ لأجلهم، تجده يُيمّم وجهَه شطر الاستراحة؛ ليسهر مع أصحابه إلى وقتٍ متأخرٍ من الليل، أما أولادُه فقد ناموا، وأما زوجتُه التي تنتظره، فقد لا تجد منه ولا كلمة اعتذار! بل يذهب ليسقط كالجدار على السرير لينام، والويلُ لزوجته إن حدّثته بشيء، أو طلبتْ حقَّها في الفراش! ولو قُدّر شيء من ذلك؛ فسيكون على نحوٍ لا تتحقق معه السعادة، ولا تنقضي به الحاجة، وستشعر الزوجةُ حينها أنها لم تبق في البيت إلا للكنسِ والطبخِ والخدمةِ وتربيةِ أطفاله! عندها لا تَسَل عن نفسيةِ امرأةٍ فقدتْ عطفَ زوجها عليها، وحنانَه، وإشباعَ غريزتها!

ولهؤلاء الأزواج أُهدي هذه القصةَ التي وقعتْ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:

جاء سلمانُ الفارسي لأبي الدرداء ـ رضي الله عنمها ـ يزوره، وقد آخى بينهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أمّ الدرداء مبتذلة ـ أي: لابسةً ثيابَ البذلة وهي المهنة وتاركة لباس الزينة ـ، فقال: ما شأنكِ؟ قالت: إن أخاك لا حاجةَ له في الدنيا، يقوم الليل، ويصوم النهار!! ـ اسمع أيها الزوج المقصِّر! فليس سهَرُه على أفلامٍ أو مباريات..كلا! ـ فجاء أبو الدرداء، فرحّب به، وقرّب إليه طعاماً، فقال له سلمان: كُلْ، قال: إني صائم، قال: أقسمتُ عليك لتُفطِرنّ، فأكل معه، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كان من آخر الليل قال: سلمان قم الآن، فصلَّيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان»([5]).

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة....


 

الخطبة الثانية

الحمد لله...أما بعد:

فتتمةً للحديث عن الحقوق الزوجية؛ فإن ثمّة حقوقاً مشتركة بين الزوجين:

أ‌-   عدم إفشاء السر: وفي صحيح مسلم: "إن من أشرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يُفْضي إلى امرأته وتُفْضي إليه ثم ينشر سرّها"([6]).

ب‌-        المناصحة بينهما: فلذلك دورٌ كبيرُ في الارتقاء بمستوى الأسرة، وإنارة درب السلامة من التردّي في الخطأ، ومن المؤسِف أن بعضَ الأزواج يَرى أن النصيحةَ من الزوجة يجب أن تَخرج منه إليها، لا إليه منها! ويرى أن النصيحةَ من الزوجة نوعٌ من التطاول وتعدّي الحدّ، وجرحٍ لكرامة الرجل، وكسرٍ لقوامة الزوج، وهذا خطأ ظاهر!

جـ- الشورى: وخصوصًا فيما يتعلق بشئون البيت، وتدبير أمر الأسرة، ومصير الأولاد، وليس من الحكمة في شيءٍ أن يستبدّ الرجلُ برأيه ولا يلتفت إلى مشورة امرأته، لا لشيء..إلا لأنها امرأة لا تَفهم ولا تُبدي رأيًا نضيجًا.

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أمهاتِ المؤمنين في عضْل الأمور وكبيرها، وما قصة استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة رضي الله عنها في قصة الحديبية إلا أكبر شاهد على ذلك.

د- إظهار المودة بين الزوجين: وتبادل الكلمات الحنونة، فإن ذلك أحسن ما تستقيم به أحوالُ الزوجين، وأفضل ما تُبنى عليه حياتُهما، ولقد كان سيدُ ولد آدم، المتربّعِ على عرش الأخلاق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مع أزواجه – رضي الله عنهن –، ولسنا بخيرٍ منه حتى نستنكف عما فعلَه، ولقد سُئل عن سببِ مودّته وحبّه لخديجة فقال: «إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد»([7])، «إني قد رُزقت حبَّها»([8]) فلم يتردد بالتصريح بحبه لزوجته رضي الله عنها، ولما امتدح الله حُورَ الجنة ذكر من جميل أوصافهن كونهن ﴿عُرُباً أَتْرَاباً﴾[الواقعة:37]، والعَروب: هي المتحبّبة إلى زوجها.

والحياة الزوجية التي يُفقد من قاموسها تلك الكلمات الطيبة الجميلة، والعبارات الدافئة حياةٌ قد غاب عنها نجمُ السعادة، نسأل الله العافية والسلامة.

اللهم أصلح أحوالَ المسلمين، ووفّقهم للقيام بشرعك في جميع أمورهم..واجعل السعادة ترفرف على بيوتهم، ووفّق كل زوجين للقيام بما أمرته به.



([1]) ألقيت في 23/6/1436هـ.

([2]) صححه ابن حبان ح(4072)، والحاكم ح(2739)، وأشار أبو داود إلى علة فيه ح(2117).

([3])  سنن الترمذي ح(3895) وقال: حسن صحيح، صحيح ابن حبان ح(4177).

([4]) متفق عليه: البخاري ح(5232) ، مسلم ح(2172).

([5]) رواه البخاري ح(1968).

([6]) مسلم ح(1437).

([7]) البخاري ح(3818).

([8]) مسلم ح(2435).

4962 زائر
0 | 0
المقال السابق
المقال التالى

هذا ولي الله


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات
أم جهاد ومريم
جزاكم الله خيرا ونفع الله بكم