كنوز ما بين الأذانين

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2016-02-01 10:17:36

كنوزُ ما بين الأذانين

حدثني أحدُ شيوخنا الذين درّسونا ـ وهو من بلاد الشام ـ فقال: كنتُ في صبايَ وشبابي المبكّر شغوفاً جداً بالقراءة، وكان أبي ممن يصلّي في البيت، وهو ممن يصنَّف في عامّة الناس، وكان بمجرد ما يدخل الوقتُ يَصُفّ قَدَميه، فيصلي ما شاء الله أن يصلي حتى يحين وقتُ الإقامة، وكنتُ ـ مِن شغفي بالقراءة ـ أستمرّ فيها حتى تُقام الصلاة، فلما تكرر ذلك منّي قال لي والدي: ما هذا الذي تقرأ يا بني؟ قلت: كُتب علْم، فقال: يا بُنيّ..العلم الذي لا يجعلك تقوم إلى الصلاة فورَ سماع المؤذن "بلاش منّه"!

هكذا بمنطق الفطرة والديانة الصادقة أرسل والدُه هذه الرسالةَ التي خرجت بلا رتوش، ولا حواشٍ ثقيلة..إنها كلماتٍ مختصرة تحمل في طياتها رسالةً مفادها: ما قيمةُ العلم بلا عمل؟ وأين أنت من هذه الكنوز التي تنتظرك بين الأذانين؟

الأوقاتُ المهدَرةُ في حياةِ كثيرٍ منا أكثر من أن تُحصَر..والشكوى من عدم قدرةِ البعض على إكمال حزبه اليوميّ من القرآن بسببِ المشاغل صارَ قصةُ شبه يومية..! والألمُ الذي يعتصر قلوبَ الأكثرين مِن عدم ذوق الصلاة، ورؤيةِ الأثر الذي ينبغي لها في القلوب؛ بات من الأحاديث التي يتهامس بها بعضُ الصالحين في مجالسهم.

وإذا أردنا أن نُشخّص سببًا من هذه الأسباب فسنجد أن تفريطَنا في تلكم الدقائق المحدودة بين الأذان والإقامة أحدُ الأسباب المهمة.

وقد تأملتُ فيما بين هذين الأذانين من الكنوز فدُهشت! وتعجبتُ من تفريطنا فيها، وأكبرتُ أولئك ـ المحسوبين على العوام ـ الذين يُسابقون المؤذنَ للدخول إلى بيت الله! وقلتُ في نفسي: يا حسرتا على علمٍ لم يدفع إلى هذه المغانم!

إن المبادِر إلى هذه الدقائق بين الأذانين، بمجرد بقائه ينتظر الصلاةَ فهو في صلاة، وملائكةُ الرحمن لا تفترُ عن الدعاء والاستغفار له، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإذا دخل المسجد، كان في صلاة ما كانت تحبسه، وتصلي - يعني عليه الملائكة - ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يُحْدِث فيه"([1]).

والله لو أن أحدنا بلَغَه أن أحدَ الصالحين المعروفين بإجابة الدعاء دعا له؛ لفرح! فكيف بملائكة الرحمن تدعو له كلما تقدّم لبيت الله، وانتظر فريضةَ الله!

وليس هذا فحسب، بل هو حين يتقدّم ويصلي ركعتين فقط، فهو بهذا يصلي أربع سجدات..وحسبك أن تتأمل في هذا الحديث لترى كم نخسر هذه الفضائل عندما لا نأتي إلا مع أو بعد الإقامة، قال صلى الله عليه وسلم: «عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة»([2]).

وإذا افترضنا أن هذا المبكّر قرأ خمسةَ أوجه من القرآن فقط ـ ربع جزء ـ، فكم فيها من حرف؟ وكم في تلك الحروف من حسنات مضاعفة؟ "مَن قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف"([3]).

ومن الناس من يختار الدعاء بين هذين الأذانين؛ رجاء ما ورد في الأثر: "لا يُرد الدعاء بين الأذان والإقامة"([4])، وللدعاء في هذه الدقائق مذاقٌ خاص، كما حدّث بعضُ من جرّبه..ومنهم أبو بكر النيسابوري الشافعي الفقيه المعروف بالصبغي(342هـ)، فقد حدّث عنه من رآه، أنه إذا أذّن المؤذن يدعو بين الأذان والإقامة ثم يبكي([5]).

ولك أن تتصور حال هذا المصلّي الذي لم تُقَم الصلاة إلا وقد تضمّخ بخَلُوق هذه البركات..استغفار ملائكة..رفعة درجات..حطّ سيئات..آلالاف مؤلّفة من الحسنات جرّاء تلاوة الآيات؟ وسكون نفْسٍ بالدعاء .. لك أن تتصور هذا وهو مُقبِل على صلاة الفريضة، أيُّ فرقٍ بينه وبين إنسانٍ جاء يسعى سعياً، يلتقط أنفاسَه، لا يدري ما يقرأ أو يتلوه إمامُه!

اللهم فلا تحرمنا هذه البركات بذنوبنا، وارزقنا تدارك ما بقي من أعمارنا فيما يقرّبنا لديك، واجعلنا ممن وُفّق للعمل بما علم.

 

 



([1])  البخاري ح(477)، مسلم ح(649).

([2]) مسلم ح(488).

([3]) الترمذي ح(2910).

([4]) روي هذا الحديث مرفوعا وموقوفا، وقد صححه ابن خزيمة مرفوعا، قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (21/139): "قد روي من وجوه حسان"ا.هـ.

([5]) تاريخ الإسلام (7/ 776).

22859 زائر
8 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات
ابو خالد المقبل
جزيتم خيرا فعلا هذه الفترة مملوءة بالكنوز ، ولا يوفق لها الا من اراد الله به خيرا .. نسأل الله ان يكتبنا منهم ..