عام جديد .. ومعركة تتجدد ([1])
عند بداية كل عام هجري يتداول الناس مسألة مشهورة وهي: حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد، وفي الأعم الأغلب أن الناس يسمعون رأيين في هذا الموضوع، فمنهم من يُجيز وآخر يمنع، ولكلٍ أدلّته التي يستدل بها، وليست هي مقصود هذه المقالة.
والأمر إلى هذا الحد معقولٌ، ويبشّر بخير، فحرصُ الناس على معرفة الحكم الشرعي شيء يدل على وعيٍ واهتمام، إلا أن الذي يكدّر هذا الفرح والاستبشار، هو أن تتحول هذه المسألة إلى جَدَل طويل، وربما تعنيف بعض الناس على من قال بأحد القولين، فتنقلب التهنئة إلى معركة من الجدل، تذهب بهاء البحث العلمي المفيد!
والملاحظ أن غالب هؤلاء المعنّفين والمنكرين ليسوا طلاب علم، بل محبين له ومعظّمين لأهله، وهنا يكمن وجهٌ الخلل، ويتعيّن إنكار هذا المسلك في التعامل مع أمثال هذه المسائل من مسائل الاجتهاد التي يسوغ فيها الخلاف. وإذا كان المجتهد ليس من حقّه أن يعنّف غيرَه في هذه المسائل، فكيف بالمقلّد؟
إن هذه المسألة نموذجٌ من عشرات النماذج التي تتكرر في الساحة العلمية، ساعَدَ على ازديادها وامتداد ألسنة لهبها، وتطفّل غير المختصين فيها عليها= انتشارُ وسائل التواصل التي أسهمت في سرعة مبادرة "المحبين والمقلدين" إلى النشر دون تروٍّ ولا بصيرة، بل وإلى تقمّص شخصية المجتهدين في أمثال هذه المسائل، ثم يبدأُ مسلسل النكير والتحذير.
ويشبه هذا: النكير والتشديد في الحكم على أحاديث تتجاذبها وجهات نظر أهلِ العلمِ صحةً وضعفاً، فما إن ينشر أحدُ الباحثين رأياً له مبنياً على بحث واجتهاد - يُقبَل من مثله - إلا وتجد هذا النوع من "المحبين"مبادراً بالنكير على الباحث أو على من قلّده ممن يثق بعلمه، بأن فلاناً من العلماء ـ وخاصة إذا كان معاصراً ـ خالفَ قولَك في هذا الحديث! وأشد من هذا وأنكى أن ينقلب هذا المقلّد حَكَمَاً على هذه الأقوال، فيرجح بينها بناء على اعتبارات لا صلة لها بالعلم مطلقاً!
ومن أسباب تأجيج هذا العراك العلمي: غرام كثير من الناس بنشر الغرائب من المسائل والاجتهادات المخالفة لما عليه عمل الناس الذي تلقوه عن أئمتهم! فينشر ويعلّق بقوله في آخر الرسالة:"منقول" ظناً منه أنه لا يتحمل مسؤولية ما فيها!
إن من النصح للأمة أن يُنشر الوعي بخطأ مثل هذه المسالك، ويُصحّح المنهج في التعامل معها، وتُردّ الأمور إلى أهلها: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[النحل: 43]، وأن فرضَ المقلّد أن لا ينشر ما يصل إليه إلا ما تأكد ثبوته عن قائله من أهل العلم، وإذا استغرب شيئاً فليتوقف ولا ينشر، بل يسأل ويتثبت عما بلغه، ولا يستعجل بالنكير، فقد قيل:
حفظتَ شيئاً وغابت عنك أشياء
وقول الله أبلغ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾[الحجرات: 6].
ومن نظر في عمل أكابر المحققين لكتب أهل العلم؛ وجد عندهم من الدقة والاحتياط في الردّ على ما قد يُظَنُّ أنه خطأ أو وهم، ويجعلون رأيهم على محكّ الظن لا القطع، وبهذا تدرك أثر العلم على أهله من جهة التثبت والتروي، وأن الإنسان كلما زاد علمُه كان أكثر تثبتا وتروياً، وأناةً في الرد أو التعقب؛ فضلا عن التبديع والتفسيق، والله المستعان.