المثبطون
في واقعنا الاجتماعي طاقات كثيرة وكبيرة، بعضها يُكتشف مبكراً، وبعضها يموت وتموت معه طاقته، وإذا تأملتَ في أسباب ذلك؛ وجدتَ التثبيط، والتحطيم النفسي من بعض الناس الذين يعيش بينهم ذلك الشخص= من أكثر الأسباب تأثيراً.
لقد طرحتُ سؤالاً على من شرفوني بمتابعتهم في صفحتي بـ(تويتر): هل سبق أن حاولتَ المبادرة لعمل إيجابي، فسمعت من يثبطك؟ وهل تأثرتَ بكلامه، أم مضيتَ في مبادرتك؟
كثير من الإجابات كانت إيجابية، وفي الوقت ذاته فعدد غير قليل منها يوحي بأثر الكلمة المثبطة، إلا أن الجميل في بعض إجابات المتابعين، أنهم جعلوا كلمة التثبيط وقوداً ينطلقون به لتحقيق ما عزموا عليه من عمل نافع وبنّاء، حتى قال بعضهم: لم تزدني الكلمة إلا إصراراً على المضي؛ لأثبت لهم أن فكرتي ناجحة، ومبادرتي يمكن تحقيقها.
ذكرتني هذه الإجابات الموفقة بموقف رائع للحبر ابن عباس حين كان في صباه المبكر، الذي لقي تثبيطاً من صاحبٍ له، لكنه لم يلتفت إليه، وهذا خبره مع صاحبه: «لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لرجل من الأنصار: يا فلان! هلم فلنسأل أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم اليوم كثير». فقال: واعجباً لك يا ابن عباس! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟ فتركَ ذلك([1])، وأقبلتُ على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديثُ عن الرجل فآتيه وهو قائل([2])، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريحُ على وجهي التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله! ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك. فأسأله عن الحديث.
قال: فبقي الرجلُ حتى رآني، وقد اجتمع الناس علي، فقال: «كان هذا الفتى أعقل مني»([3]).
كم هو رائع أن يتكرر هذا الموقف مع من يثبطنا للمضي قُدُماً فيما نقصد إليه من مشاريع علمية أو عملية، وأن لا يثنينا عن ذلك كلمة أو موقف.
لقد مارس أعداءُ الدين التثبيطَ مبكراً مع سيد الدعاة إلى الله صلى الله عليه وسلم، فتأمل في هذه الأساليب التي حكاها الله عنهم في سورة النحل: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُون﴾[النحل: 101] وقالوا مرةً: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾[النحل: 103]، فأمر اللهُ تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم - في نفس السورة - أن يستمر في دعوته، ولا يلتفت إلى دعاواهم، قائلاً: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[النحل: 125]، فما أحرى المؤمن أن يجعل هذه الآيات منهجاً له، يدفعُ بها قالات المثبطين، ويئدُ بها كلمات الكسالى والعاجزين.
إن التثبيط الذي يسمعه الإنسانُ، لا يقتصر على مشروعٍ علمي أو دعوي، أو تجاري، أو غير ذلك من المشاريع؛ بل يمتد ليشمل أموراً، منها:
1) التثبيط عن التوبة، التي هي وظيفة العمر، فكم تردد شابٌ أسرف على نفسه بالمعاصي في قرار التوبة بسبب تثبيط يسمعه من صديق سوء، أو من وسوسة شيطانية، يقذف بها في قلبه، مضخماً ذنوبه، مستعظماً قبول توبته!
2) تثبيط النفس عن الجهاد في ميادين الطاعة عامة، كالحج، والجهاد - إذا وجد سببه الشرعي -، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن الجهاد بالبيان: المشاركةُ في الكتابة في الميادين التي يحسنها الإنسان، فكما أنه يطالب الإنسان أن لا يستعجل في الكتابة حتى يملك شيئاً من ناصية البيان، وقدرٍ من العلم فيما يعانيه من الكتابة؛ فهو مطالَب - أيضاً - أن لا يتباطأ، بحيث يتأخر عن ذلك تأخراً ربما غُلّف بوَرَع بارد.
وأختم بهذا الموقف العملي، الذي وقع بين عالم وتلميذه، أما العالم فهو الشيخ طاهر الجزائري (ت: 1338هـ) وأما التلميذ فهو الأستاذ محمد كرد علي (ت: 1372هـ) - رحمهما الله - حيث يقول في "مذكراته"([4]):
"ولقد نصحني أستاذي الشيخ طاهر الجزائري نصيحةً وَقَتْ أوقاتي من الضياع, وفكري من البلبلة، وكان ذلك لما بدأتُ بتحرير جريدة (الشام) قال: إذا أحببت النجاح في هذا البلد؛ فلا تُلْقِ بأذنك لما يقال فيك من خير وشر, وارم ببصرك فقط إلى الهدف الذي يعنيك الوصول إليه, ولا تلتفت ذات اليمين ولا ذات الشمال، وإذا وضع لك واضع حجراً في طريقك فتنحَّ عنه, وعُدْ إلى سلوك محجتك.
تقبلت هذه النصيحة, وما عبأت بعدها بسماع أقوال المثبطين, ولا بمصانعة المداحين, وعرفت - مع الزمن - أن أصواتَ أهلِ هذه الفئة تضيع في الهواء كالهباء, وأنهم كسالى لا يعملون, ويشق عليهم أن يروا أحداً يعمل"ا.هـ.
ومع التأكيد على ما سبق؛ فإن العبدَ لا يصح أبداً أن يعتمد على ما في قلبه من قوة الداعي والباعث على العمل، بل لا بد أن يستحضر عبادة التوكل، والتبرؤ من حول النفس وقوَّتها([5])، مع بذل الأسباب التي تعين على تحقيق النجاح في مشروعه، وسيرى ما يسرُّه بعون الله.