أندونيسيا تتدبر القرآن
مما تَقَرُّ به عينُ المسلم: انتشار حلقات تحفيظ القرآن الكريم في طول العالم الإسلامي، والحرص الكبير على تنظيم المسابقات في حفظه وتجويده، ونشر ذلك بين المسلمين - عربِهم وعجمِهم -.
ولا ريب أن هذا ليس هو القدر المطلوب في علاقة المسلمين مع كتاب ربهم، بل يجب أن تنتقل الأُمّة إلى المقصد الأكبر من نزول القرآن، وهو تدبره والعمل به: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[ص: 29]، ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾[البقرة: 121].
وفي سبيل تحقيق هذا المقصد النبيل؛ انطلق - يومَ الأربعاء الثامن عشر من شهر رجب من عام ألف وأربعمائة وأربعة وثلاثين - وفدٌ مكوّن من عدد من المهتمين بتدبر القرآن، - على رأسهم أ.د.ناصر العمر، وكاتب هذه الأسطر، وآخرون - إلى أقصى جنوب شرق آسيا، حيث أكبر البلاد الإسلامية من حيث تعداد السكان، الذين قارب عددهم ربع مليار نسمة، إلى أندونيسيا تحديداً.
لقد سبقتنا البشائر قبل أن نصل، حيث علِمْنا بعناية بعض الدعاة هناك بنشر عبادة التدبر، وتربية الناس عليها، في جهود متفرقة، تنشط حيناً وتفتر حيناً آخر.
وقد علَّمتْنا التجارب والأيام أن العمل الفردي - مهما بلغ حماسُ صاحبه له - عرضةٌ للضعف والفتور، وربما التوقف! وهذه مآلاتٌ لا تليق بالمشاريع العادية، فكيف بمشروع يتعلق بكتاب الله، وبعبادةٍ من أخص عباداته؟!
ومن هنا كان الترتيب لزيارة هذا البلد؛ من أجل إطلاق حملةٍ اختير لها شعار: (أندونيسيا تتدبر القرآن)، وتحتها عدد من الفعاليات، أهمها اثنتان:
الأولى: محاضرة لفضيلة أ.د.ناصر بن سليمان العمر - رئيس الهيئة العالمية لتدبر القرآن -، ألقاها في جامع الاستقلال، وهو أكبر جوامع أندويسيا، ومن أكبر الجوامع في العالم، وقد حضرها 25 ألفاً، وبحضور رسمي وإعلامي كبير.
الثانية: افتتاح وزير الشؤون الدينية في أندونيسيا لـ(الهيئة الأندونيسية لتدبر القرآن الكريم) برئاسة الشيخ محمد زيتون، ونيابة الشيخ يوسف بختيار، وكان هذا الافتتاح قبيل محاضرة الدكتور ناصر المشار إليها آنفاً.
لقد كان يوماً مجيداً من أيام أهل القرآن هناك، رأيتُ وسمعتُ مَن بكى من الحضور حين أُعلن عن انطلاق الهيئة الأندونسيسة، وحُقّ لهم هذا الفرح، وحُق لهم هذا البكاء؛ لأسباب، منها:
1) أن أندونيسيا بلد له ثقله من حيث التركيبة السكانية، وفيه أعراق كثيرة، ولغات متباينة، وهم - كغيرهم من الأمم والشعوب الإسلامية - لن تجد أكثر من القرآن قوةً في جمعهم وتقريب قلوبهم، إذا بُيّنت معانيه، وفُسرت آياته على طريقة السلف الصالح، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الأمم والشعوب الإسلامية.
2) ومنها: أن البلد مفتوح لكل من يسبق للعمل، فالنصارى يعملون على تنصير الناس؛ مستغلين فقرَهم وحاجتَهم، وكذلك الرافضة مجتهدون في نشر مذهبهم الباطل، وتصدير الثورة؛ مستغلين ما استغله النصارى، أفلا يفرح السُني بقيام أي مشروع يقوي ارتباط المسلمين بدينهم؟! فكيف إذا كان هذا المشروع متعلقاً بكتاب الله! مع ضعف الجهود المبذولة في الجملة - من أهل السنة - لنشر المنهج الصحيح البعيد عن البدع والضلالات، والانحرافات العلمية والعملية، مقارنة بجهود الرافضة التي لا تكلّ ولا تفتر، والله المستعان.
3) ومنها: أن هذه البلاد لها عناية بتحفيظ القرآن - كما يلحظ من نوعية المشاركين في المسابقات الدولية -، وفيها أكثر من نصف مليون مسجد رسمي، فضلاً عن المساجد غير المسجّلة عند الجهات الرسمية، فانتشار عبادة التدبر - بمفهومها الإيماني والعلمي -، سيختصر كثيراً من طريق إصلاح القلوب، وتعبيدها لرب العالمين، خاصة مع ماهو ملموس مِن إقبالٍ على الخير، وما تحمله قلوبُ هذا الشعب الكبير من عاطفة صادقة تجاه الإسلام، وحُبٍّ للقرآن، وتعلّق عاطفي به.
إنني أدرك أن التحديات كبيرة، والمشوار طويل، ولكنني -في الوقت ذاته- موقن بأننا مأمورون بالعمل بأقصى ما نملك من قدرات وطاقات لخدمة كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، كلٌّ في ميدانه الذي يُحسنه، ويجد نفسه مبدعاً فيه، مع صدق التوكل على الله، وستكون النتائج فوق المأمول بحول الله، فإن الرب الذي يعطي على الحسنة عشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، سيعطي على العمل الذي حقق شروطَ القبول والنجاح مثل ذلك، وما نحن إلا بفضل الله وكرمه وتوفيقه.
إن حقّاً على الدعاة إلى الله عامة، وفي أندونيسيا خاصة؛ أن يتعاونوا ولا يتصارعوا، يجتمعوا ولا يتفرقوا، يبنون ولا يهدمون، وأن تسود بينهم روح التناصح لا التفاضح، وتسديد الخلل، لا نقض للبناء، وأن يدركوا أن حجم الاختلاف الذي يوجد بين أكثر الجماعات المنتسبة إلى منهج السلف؛ يمكن حله بالتشاور، والحوار المتجرد عن الهوى، والذي يُراد منه الوصول إلى الحق لا نصرة القول الشخصي، وعدمِ التعصّب للرأي المبني على اجتهاد سائغ، خاصةً وأن أمامنا عدواً أكبر وهو التنصير، وبدعاً خطيرة بدأت تسري في المجتمع، وعلى رأسها الرفض.
أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا المشروع، وأن يجعله فاتحة خير لوصول هدايات القرآن لإخواننا في تلك البلاد وغيرها، إنه سميع مجيب.