البعد الدعوي والتربوي للقرآن المكي والمدني 1/2

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2019-01-29 06:00:45

البعد الدعوي والتربوي للقرآن المكي والمدني (1/2)

من العلوم المشتهرة بين عامة المسلمين: أن القرآن ـ في وقت نزوله ـ ينقسم إلى قسمين: مكي، ومدني، وأما الفرق بينهما من حيث التعريف والمضامين فمما يدركه عامة طلبة العلم.

وليس الغرض هنا استعراض ذلك - فهو مبسوط في مواطنه من كتب علوم القرآن - لكن الغرض: الإشارة إلى معنى مهمٍ؛ ألا وهو: النظر في البُعد الدعوي والتربوي لهذا التقسيم، والذي يُفوّتُ عدمُ تأمله - على الداعية وطالب العلم - خيراً كثيراً، بل قد يوقعه تركُ هذا التأمل في إشكالات علمية وعملية كبيرة! وما واقِع بعض طلاب العلم والدعاة، والعاملين في ميادين الجهاد بأنواعه المختلفة - جهاد السنان والسلاح - إلا أكبر دليل على ذلك.

ومَنْ له أدنى متابعة على الساحة الدعوية والعلمية، والحوارات الإعلامية في وسائل الإعلام المختلفة؛ لا يتعب في رؤية منهجين بينهما تفاوتٌ كبير في التطبيق، مع أن كلاً منهما يُعلِن أن منهجه: الانطلاق من الكتاب والسنة، فأين الخلل؟

لعلنا نهتدي للجواب من خلال ما يلي:

أولاً: هذا التقسيم إلى مكي ومدني - بكل ما فيه من اختلاف في الأساليب والمضامين - إنما هو أثر من آثار حكمة الله وعلمه، وعليه فخليق بالمؤمن أن يتوقف ليتأمل في حِكم وأسرار هذا التقسيم، وكيفيةِ الاستفادة منه في الحياة العلمية الدعوية والتربوية.

ثانياً: لا يمكن - وقد أيقنا بأن هذا التفاوت في الأسلوب والمضمون له حِكمٌ وأسرار - إلا أن نتأمل جيداً في خصائص خطاب كلّ مرحلة - وهو مبسوط في مواطنه كما أسلفت - ولكن الذي يُهمنا من ذلك في هذا المقام؛ الإشارة إلى معنى وهو: "ظهور حكمة التشريع في أسمى غاياته، حيث يتدرج شيئاً فشيئاً بحسب الأهم على ما تقتضيه حال المخاطبين واستعدادهم للقبول والتنفيذ"([1])، ويترتب على هذه الحكمة ثمرة عملية، وهي: "تربية الدعاة إلى الله تعالى، وتوجيههم إلى أن يتبعوا ما سلكه القرآن في الأسلوب والموضوع من حيث المخاطبين؛ بحيث يبدأ بالأهم فالأهم، وتستعمل الشدة في موضعها والسهولة في موضعها"([2]).

ومن الأئمة الكبار الذين نصّوا على هذا المعنى في فقههم التطبيقي لآيات الصفح والصبر، وفقه آيات الجهاد والنكاية في الأعداء: شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - حيث يقول: "فمن كان من المؤمنين بأرضٍ هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف؛ فليَعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله - من الذين أوتوا الكتاب والمشركين - وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر، الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون"([3]).

وقال أيضاً: "حيث ما كان للمنافق ظهور تخاف من إقامة الحد عليه فتنةً أكبرَ من بقائه عملنا بآية {وَدَعْ أَذَاهُمْ}[الأحزاب: 48]، {وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ}[الأحزاب: 48]، كما أنه إذا عجزنا عن جهاد الكفار علمنا بآية الكف عنهم والصفح، وحيثما حصل القوة والعز خوطبنا بآية: {جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}[التوبة: 73]"([4]).

ومن أئمة العصر الكبار الذين قرَّروا هذا المعنى بوضوح: سماحة شيخنا ابن باز - رحمه الله - فإنه لما قرر ضعف القول بنسخ آيات العفو والصفح، قال:

"والأحوال تختلف فإذا قوي المسلمون وصارت لهم السلطة والقوة والهيبة استعملوا آية السيف وما جاء في معناها،...فإن ضَعُفَ المسلمون استُعْمَلَ الآيات المكية، لما في الآيات المكية من الدعوة والبيان والإرشاد والكف عن القتال عند الضعف، وإذا قوي المسلمون قاتلوا حسب القدرة فيقاتلون من بدأهم بالقتال وقصدهم في بلادهم ويكفون عمن كف عنهم فينظرون في المصلحة التي تقتضيها قواعد الإسلام وتقتضيها الرحمة للمسلمين والنظر في العواقب كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة وفي المدينة أول ما هاجر"([5]).

وللحديث بقية تأتي بمشيئة الله تعالى.

 

 



([1]) أصول التفسير للعثيمين (ص19).

([2]) أصول التفسير للعثيمين (ص19).

([3]) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 221).

([4]) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 359) .

([5]) مجموع فتاوى ابن باز (3/ 192).

  • الكلمات الدالة
6334 زائر
0 | 0

روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات