لهذا نفرح برمضان

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2017-05-25 17:05:18

لهذا نفرح برمضان ([1])

 

الحمد لله رب العالمين...أما بعد: 

فهنيئًا لكم يا عباد الله إدراك نعمة دخول هذا الشهر الكريم, هنيئًا لكم دخول هذا الشهر، وحُق لكم أن تفرحوا به، كيف لا وربكم عز وجل يقول لكم فيما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس:58].

يفرح المؤمن ببلوغه لأنه تصرّمت دونه أعمار, وقُضيت مِن قَبله آجالٌ يتمنى أهلُها اليوم أن لو كانوا معنا ليصوموا كما نصوم, ويقوموا كما نقوم, ويقرؤون كما نقرأ, اللهم لك الحمد ظاهرًا وباطنًا، وأولًا وآخرًا؛ على بلوغ رمضان, اللهم كما بلغتنا أوَّله فأتم علينا النعمة ببلوغ آخِره, وأعنا فيه يا ربنا على ما تحبه وترضاه، وما يُحقق في قلوبنا تقواك يا ذا الجلال والإكرام.

أيها المسلمون: حُق لنا أن نفرح برمضان:

1)  فلقد حدّثنا الصادق المصدوق أنه "إذا دخل رمضان فُتحت أبواب الجنة"([2])، ومعنى تفتيحها: أي أنها تتهيأ لأهلها، وأن أهلها يعانون فيها على الأعمال الصالحة ما لا يُعانون في غيره.

2)  ومنها أيضًا مما يحق لنا أن نفرح به: أن أبواب النار تُغلق, وشياطين الجن تُصفّد([3]), وهذا كله يفسره قوله صلى الله عليه وسلم في حديثٍ آخر: «فلا يَخلُصوا إلى ما يَخلُصون إليه في غير رمضان»([4]).

3)  حُق لنا أن ن فرح ونحن نسمع هذه البشارات النبوية، والتي منها أيضًا: أن الله جل وعلا قال في الحديث القدسي - حينما ذكر مضاعفة العمل -: «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به»([5]).

هنا حارت أفكار العلماء في تفسير هذا الاختصاص لهذا الركن من بين أركان الإسلام! مع أن الصلاة والزكاة أفضل منه، لكن مِن أقرب ما قيل في تفسيره: أن الصوم عملٌ عظيم يحتاج إلى صبر, ورمضان "شهر الصبر" كما جاء في الأثر([6]), وقد قال الله عز وجل في محكم تنزيله: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[الزمر:10].

وحسبُك حسبُك أن يقول لك أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين: إن جزاءك عندي بلا حسابٍ ولا عد! فما ظنك بما سينالك ويصيبك من نفحات هذا الرب الكريم وعطاياه الجزيلة؟! فأبشر أيها الصائم، أبشر أيها الصابر، أبشر أيها القائم؛ فكلما تحقق في قلبك الإخلاصُ وموافقةُ الشرع فيما تأتي وتذر؛ فإن عطاءَك لا حدَّ له.

4)  حُق لكم أيها المسلمون أن تفرحوا ببلوغ رمضان، فلقد سمعتم قول نبيكم صلى الله عليه وسلم: «للصائم فرحتان: فرحة عند فطرة, وفرحة عند لقاء ربه»([7])، فرحة عند فطره، وهي فرحة فطرية حينما يتمتع بما أحل الله عز وجل, فيأكل ويروي عروقَه بعد الظمأ, ويحمد الله عز وجل بعدما يسّر له مِن نِعمٍ يأكلها، أما الفرحة الأخرى والكبرى فهي حينما يلقى ربّه الذي يقول: «إلا الصوم فإنه ليّ وأنا أجزي به»، فهو يقف بين يدي ربه ينتظر جزاءه وموعوده حينما يقال لهم في الموقف العظيم: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾[الحاقة:24].

5)  حُق لكم يا عباد الله أن تفرحوا برمضان: لأنه زمانٌ تكون الحسنة فيه خيرٌ من زمان آخرَ غيره، إلا ما دل عليه الدليل - كعشر ذي الحجة ونحوها - فهنيئًا لكم وحُق لكم أن تفرحوا ببلوغه.

ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم عن العمرة فيه كما في الصحيحين: «عمرة في رمضان تعدل حجة معي»([8])، ولقد استفاض عن السلف وتواتر الحث على الصدقة في رمضان؛ فإن شأنها عند الله عز وجل أعظم من غيره.

6)  حُق لكم يا عباد الله أن تفرحوا برمضان وببلوغه: لأنه الشهر الذي ميّزه الله بنزول أعظم كتابٍ على أعظم وخير نبي, هذا الشهر الذي كان فيه نبيكم صلى الله عليه وسلم يُدارس جبريل القرآن، فيظهر من بركة القرآن عليه في جوده وسخاءه صلوات الله وسلامه عليه, كما قال ابن عباس رضوان الله عليهما: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن"([9]).

فليظهر أثرُ القرآن عليكم يا عباد الله؛ بجودكم بمالكم لمن كان ذا مال, وبجاهكم لمن كان ذا جاه, وبقوته البدنية لمن استطاع عون المستحقين والمحتاجين, جودوا بالدلالة على المحتاجين لمن يقدر على مساعدتهم, من كان ذا علمٍ فليجد به, ومن كان ذا مالٍ فليجد به فهذا شهر الجود, وهذا شهر البركات, هذه - يا عباد الله - أسبابٌ - وغيرها كثيرٌ - تجعل قلبَ المؤمن يفرح ببلوغ الشهر, ويشكر الله عز وجل كثيرًا على إدراكه، ويظهر أثر هذا الشكر والفرح على قوله وعمله.

بلغنا الله وإياكم رضوانه, وأعاننا وإياكم فيه على صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيه عنا، وأكرمنا بالحلة الكبرى بمغفرة ذنوبنا، ما تقدم منها، وبالفرحة الكبرى عند لقائه جل وعلا، آمين, آمين, آمين.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم ليّ ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه إن ربي رحيمٌ ودود.


الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين...أما بعد:

فيا عباد الله: إن تمام الفرحة بما سبق ذكره ينبغي أيضًا أن يتجلى في جانبٍ  آخر، وهو جانب الترك, فإن التقوى لها ركنان: أفعالٌ تُؤتى, وأفعال تُترك, فإن الإنسان لا يحقق تقواه - وهي الغايةَ التي لأجلها شرع الله الصوم, كما في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:183] - إلا بترك ما ينافي التقوى, وإلا فقد قال بعض السلف: إن أهون الصيام ترك الطعام والشراب([10]), وخيرٌ منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل» أي: الخطأ والاعتداء على الناس «فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»([11]).

وفي الأثر: "رُب صائمٍ حظه من صيامه الجوع والعطش, ورب قائمٍ حظه من قيامه التعب والسهر"([12])، نعوذ بالله تعالى من الخذلان.

أيها المسلمون يقول ابن رجب رحمه الله مبينًا نكتةٍ لطيفة, وحكمةً بالغة في ذكر آيات تحريم أكل أموال الناس بالباطل, والأمر بالتقوى، بعد آيات تحريم الأكل والشرب في الصيام، قال رحمه الله: "لأن تحريم الأكل والشرب مؤقتٌ، بينما تحريم أكل أموال الناس بالباطل مُحرمٌ على الدوام، فمن ترك هذا فليترك ذاك, فإن الله جل وعلا ختم الآية بقوله: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾[البقرة:187].

أيها المؤمنون: إن في رمضان لصوصًا كُثر، لصوصًا يدعون إلى خطف البصر, ويدعون إلى خطف السمع, ويدعون إلى خطف الجوارح, ونَقلِها من مراتع التقوى - كبيوت الله عز وجل، والصحبة الصالحة التي يتدارس معها الإنسان العلم - إلى حيث الشاشات التي تدعو إلى ما يُغضب الله عز وجل، ويُفسد ما يجمعه الإنسانُ من حسنات في النهار! يدعونه إلى رؤية ما حرم الله عز وجل, وهم بطبيعة الحال لا يقولون: تعال إلى الحرام, بل يغلِّفون دعوتهم باسم الدراما! وباسم الترفيه! وباسم المسابقة! ويغطونها ويرغّبون فيها بالمسابقات وغير ذلك، وهي أمورٌ لا يخفى على عاقل ما فيها من المحاذير الشرعية, فاتقوا الله يا عباد الله, وتذكروا قوله عز وجل: ﴿أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾[البقرة:221].

فاختر لنفسك أيها العاقل المؤمن أيَّ الدعوتين تجيب, اللهم استعملنا في طاعتك, اللهم استعملنا في طاعتك, اللهم ارزقنا تقواك, وبلغنا رضاك, اللهم اجعلنا ممن صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابا...



([1]) ألقيت في 2/ 9/ 1436هـ.

([2]) صحيح البخاري ح(3277)، صحيح مسلم ح(1079).

([3]) صحيح البخاري ح(3277)، صحيح مسلم ح(1079).

([4]) مسند أحمد ح(7917)، قال محققو المسند: إسناده ضعيف جدًا.

([5]) صحيح مسلم ح(1151).

([6]) مسند أحمد ح(7577)، صحيح ابن حبان ح(6557)، سنن النسائي ح(2408)، وصحح إسناده محققو المسند.

([7]) صحيح البخاري ح(7492)، صحيح مسلم ح(1151).

([8]) صحيح البخاري ح(1863)، صحيح مسلم ح(1256).

([9]) صحيح البخاري ح(6)، صحيح مسلم ح(2308).

([10]) لطائف المعارف. لابن رجب (ص: 155).

([11]) صحيح البخاري ح(6057).

([12]) المسند ح(8856)، المستدرك ح(1571)، صحيح ابن خزيمة ح(1997)، صحيح ابن حبان ح(3481)، وقال محققو المسند: إسناده جيد.

  • الكلمات الدالة
9077 زائر
2 | 0
المقال السابق
المقال التالى

روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات