أسئلة القرآن

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2014-10-30 18:36:14

أسئلة القرآن([1])

الحمد لله أكرمنا بنزول القرآن، وجعل نزولَه في أشرف زمان ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾[البقرة: 185] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ما رحم الخلق بمثل تعليمهم القرآن: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ﴾[الرحمن: 1، 2]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كان خلقه القرآن، يتلوه آناء الليل، ويترجمه واقعا في بقية الزمان، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه كل أوان، أما بعد:

ففي أعقاب غزوة بدر، جاء جبير بن مطعم بن عدي يطلب أسيراً له في المدينة، فوافى دخولُه إياها والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بسورة الطور، فلما بلغ: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾[الطور: 35 - 37] قال جبير: كاد قلبي أن يطير! وذلك أول ما وقر الإيمانُ في قلبي.([2])

إنها ـ يا عباد الله ـ أسئلة القرآن التي تخاطب القلب والعقل، وتحرك فيه دواعي التأمل والتفكر، ليتعرف على مَن أنزل القرآن، ويزداد الإيمان بتدبر كلامه، والتفكر في معانيه.

يا أمة القرآن.. لقد شَغَلَتِ الأسئلةُ في كتاب الله تعالى حيّزاً كبيراً، وتنوعت أساليبُها حسب سياقاتها، فمرةً يأتي السؤال للتوبيخ، ومرةً للإنكار، ومرةً للاستبطاء، كما قال الله عن الرسل وأتباعهم ـ حينما لاقوا ما لاقوا من الشدة ـ: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾[البقرة: 214].

وتأتي أسئلةُ القرآن لتخاطب العقولَ المستكبرة المُصرّة على ضلالها! تأمل موقع ذلك الاستفهام: ﴿فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ﴾[التكوير: 26] بعد قوله تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾[التكوير: 22 - 25] إنه استفهام ينبئ على غرقهم في الضلال، وإلا فأين تذهب عقولهم من عدم التصديق بهذا النبي وهم يرون دلائل صدقه، وبراهين نبوته؟!

وحين يشتد الكفرُ تتنوع أساليبُ الاستفهام القرآني؛ لتقرع قلوبَ الكفار والمعاندين، فتأمل في تلك الاستفهامات التي افتُتح بها صدر سورة المرسلات: ﴿أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِي﴾[المرسلات: 16 - 19].

ويأتي أسلوب الإنكار على الخصوم بألوان من الاستفهامات تَفلِق هامَ شبهاتهم لو وافقت قلوباً حيّة: استمع لهذه الاستفهامات: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ﴾[الأنعام: 40]؟ ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾[الأنعام: 14]؟ وكقوله: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾[الزخرف: 31، 32]؟ أي: ليسوا هم المتخيرين للنبوة من يصح لها، ولا المتولِّين لقسم رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته.

ومِن تلكم الاستفهامات التي تملأ القلبَ إيماناً وإخباتاً وخضوعاً لذي العظمة والجلال؛ ما ذكره الله تعالى عقب قصص الأنبياء في سورة النمل:

﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾[النمل: 59 - 64].

ومن سورة النمل إلى سورة الواقعة التي ترَكَّزت على قضية البعث يوم القيامة.. وخاطبت عقولَ المشركين بأنواع من الخطاب، كان منها: تلكم الاستفهامات التي لو تأملها الإنسانُ العادي لخرج بدرس إيماني عظيم: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾[الواقعة: 57 - 74].. سبحان ربنا العظيم .. سبحان ربنا العظيم .. سبحان ربنا العظيم..!

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...


 

الخطبة الثانية

الحمد لله ... أما بعد:

فإن الحديث عن أسئلة القرآن وأنواع الاستفهام فيه لا يمكن أن يستوعبه مقام كهذا، وإنما المراد من هذا الحديث أن نعيد النظر في طريقة قراءتنا لكتاب الله تعالى، وكيف نخرج بقراءة تَصلُح بها قلوبُنا، وتَرِق بها من جمودها، وتلين من قسوتها، فلقد غلب على الكثير منا  تغليب: كم قرأتُ، دون: كيف قرأت؟

إن الموفّق ـ حين يمسك المصحف ـ ينبغي له عند التلاوة "للسورة إذا افتتحها: متى أتعظ بما أتلو؟ وليس متى أختم السورة؟ وإنما مراده متى أعقل عن الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأن تلاوته للقرآن عبادة, والعبادة لا تكون بغفلة!"([3]).

 

 



([1]) ألقيت في 6/9/1435هـ.

([2]) هذا سياق مجموع من عدة روايات في البخاري، انظر: ح(4854)، (4023).

([3]) أخلاق حملة القرآن. للآجري (1 / 36 - 37) بتصرف يسير.

  • الكلمات الدالة
8318 زائر
1 | 0

روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات