أما الجواب عن السؤال الذي يحتج به الشيعة على أن عمر رضي الله عنه قد أمر بغير ما شرع الله! فليس: للشيعة متمسك في هذا الأثر على أن عمر رضي الله عنه أمر بغير شرع الله – حاشاه من ذلك –!! وإذا كان هذا - أعني دعوى الأمر بغير شرع الله – لا يتصور في آحاد الصالحين من هذه الأمة، فكيف يتصور ذلك في الخليفة الراشد الذي أجمعت الأمة في وقته على صحة خلافته؟ ولكنه الهوى والتعصب يجعل من الأسود أبيض ومن الأبيض أسود!! نعوذ بالله من الهوى.
واعلم أنه ما من أحد من العلماء – إلا ما ندر– إلا وله من الأقوال والآراء ما يخالف فيه السنة، نظراً لأن السنة لا يمكن لأحد أن يحيط بها إحاطة تامة، بحيث لا يشذ عنه منها شيء، هذا لم يقع لكبار الصحابة رضي الله عنهم فضلاً عن غيرهم ممن أتى بعدهم، ومع ذلك فلم يقل أحد من العلماء: إن مخالفة عالم للسنة – بسبب خفائها عليه أو لعذر غيره – إن ذلك من تبديل شرع الله تعالى.
ولهذا لم يقل أحد من الأئمة: إن علياً رضي الله عنه قد بدل الشريعة حينما قال: إن المتوفى عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين؛ لمخالفة قوله هذا للسنة الصحيحة الصريحة في الحديث الذي رواه البخاري(3991) ومسلم(1484) عن سبيعة الأسلمية رضي الله عنها، والتي أفتاها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها انقضت عدتها بمجرد وضع حملها؟
بل أهل العلم يعتبرون هذا من جملة الاجتهادات التي يعذر فيها صاحبها، ولا يوافق على قوله، وتمثل هذه الطريقة تعامل أهل العلم المنصفين مع اجتهادات العلماء التي تبين خطؤها، سواء كان العالم من الصحابة رضي الله عنهم، وهم أولى الناس بالتماس الأعذار – أو مع غيرهم.
وبخصوص حديث عمر –رضي الله عنه- هذا، فإن قول عمر رضي الله عنه له سبب – كما قال ابن عبد البر في(التمهيد:19/273): "وذلك أن عمر رضي الله عنه كان يذهب إلى أن الجنب لا يجزيه إلا الغسل بالماء، فلما أخبره عمار رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال بأن التيمم يكفيه، سكت عنه ولم ينهه، فلما لم ينهه علمنا أنه قد وقع بقلبه تصديق عمار رضي الله عنه؛ لأن عماراً رضي الله عنه قال له: "إن شئتَ لم أذكره"، ولو وقع في قلبه تكذيب عمار رضي الله عنه، لنهاه؛ لما كان الله قد جعل في قلبه من تعظيم حرمات الله، ولا شيء أعظم من الصلاة، وغير متوهم عن عمر رضي الله عنه أن يسكت على صلاة تصلى عنده بغير طهارة، وهو الخليفة المسئول عن العامة، وكان أتقى الناس لربه وأصلحهم لهم في دينهم في ذلك الوقت رضي الله عنه" انتهى كلام ابن عبد البر رحمه الله.
فتحصل من كلامه رضي الله عنه أمران:
الأول: أن عمر رضي الله عنه كان قد خفيت عليه السنة أو نسيها، وكان يظن أن الجنب لا يصلي حتى يغتسل بالماء، وأن التيمم لا يكفيه، حتى أخبره عمار رضي الله عنه.
الثاني: أن عمر رضي الله عنه قد رجع إلى السنة حينما أخبره عمار بها – كما وضح وجه ذلك ابن عبد البر-، وهذا هو الظن بكل مسلم تتبين له السنة، فضلاً عن الصحابة رضي الله عنهم، فضلاً عن الخليفة الراشد الوقَّاف عند حدود الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ولكن المشكلة في بعض الناس – الذي يفقد الإنصاف – حينما يتعامل مع الأخبار والقصص – وفي نفسه شيء على من يقرأ أخباره – فإنه حين يقرأ، إنما يقرأ لتتبع الأخطاء والزلات ونسيان الحسنات، فهو كما يقول شيخ الإسلام، كالذباب لا يقع إلا على الجرح، وهذا مخالف للمنهج القرآني الذي رسمه ربنا بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (سورة المائدة:8)، ويقول سبحانه:{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(سورة الأنعام:152).
فنسأل الله العدل والإنصاف مع نفوسنا وإخواننا وخصومنا، ونقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمان وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(سورة الحشر:10).
ارسال الفتوى