الزواج بينة الطلاق
الحمد لله وبعد :
فإن الرجل قد تضطره ظروف عمله وحياته ـ سواءٌ كان متزوجاً أم عزباً ـ أن يسافر إما لطلب الرزق ،أو للعلاج ، أو للدراسة ،أو غير ذلك من الأغراض ، فإن كان متزوجاً فقد يصعب عليه نقل زوجته معه ،وإن كان له منها أطفال فالأمر أشد.
فإن قيل لمثل هذا : لا تتزوج ، فقد يقع في الحرام ، خصوصاً إن كانت البلاد التي هو فيها تعج بالمغريات ـ وهو حال أكثر بلاد العالم ـ.
وإن قيل له : تزوج ، ولو كان في نيتك أن تفارقها عند رجوعك ، لكان هذا ـ على الأقل ـ أخف وأهون حالاً من الأولى.
ومن تأمل في صورة عقد النكاح بنية الطلاق ،وجده لا ينقض ركناً ولا شرطاً من شروط النكاح ، ولأجل هذا أباحه جماهير الفقهاء.
والذين وقفت على كلامهم ممن منعوا هذا النوع من النكاح ،إنما منعوه لأمر خارج عن عقد النكاح ، كالتعليل بأنه غش ،أو أنه ينافي حديث (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ... ) ،أو أنه يشوّه صورة الإسلام في نفوس الكفار .
وهذا ـ إن ثبت ـ فهو يقضي بالتحريم لا البطلان ، مع أن كثيرا من المانعين والمجيزين لا يفرقون بين صورة وأخرى، مع ما يترتب على ذلك من اختلاف في الحكم.
وما أود ذكره في هذه العجالة ، سألخصه في الآتي :
أولاً : ينبغي تحرير صورة الزواج بنية الطلاق التي تكلم عليها الفقهاء قبل الخوض في التفاصيل ؛ ليحسن الرد إليها عند الاختلاف .
ثانياً : الصورة التي يذكرها الفقهاء في كتبهم هي : أن يسافر الإنسان لغرض صحيح كالتجارة ،أو طلب العلم ، أو غير ذلك من الأغراض الصحيحة لمدة طويلة ، فيخشى على نفسه العنت ـ وهو الوقوع في الحرام ـ فيتزوج امرأة بنية تطليقها إذا عزم على مفارقة تلك البلد.
ثالثاً : إذا تحررت صورة الزواج بنية الطلاق ، فليس من صُوَرِهِ ألبتة أن ينشئ سفراً من أجل هذا العقد ـ كما يقع وللأسف في هذا العصر من بعض الناس استغلالا لسرعة المواصلات وسهولتها ـ لأن هذا لا تنطبق عليه الصورة التي تحدث عنها الفقهاء.
وعند التأمل في هذه الصورة ـ وهي أن يحجز لبلد من البلاد بغرض الاستمتاع بامرأة ما ، ثم يعود أدراجه ـ سنجد أنها (إلى السفاح أقرب منها إلى النكاح) لاسيما مع ما يحتف بتلك الزيجات من مخالفات شرعية ومفاسد ، فأقل أحواله أنه عقد شبهة ،ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.
رابعاً : البحث الفقهي في الجواز والمنع قديم ،ولكن أرى أنه لا بد من التنبه لأمور في سياق الحديث عن هذا الموضوع :
1 ـ ينبغي أن لا يُغْفَلَ جانب مقاصدي في هذا الموضوع ،وهو مقدار ما يحدثه هذا النوع من النكاح من تشويه لسمعة المسلمين ،وأنهم قومٌ خونة ،ولا عهد لهم ... الخ .
ولعلّ مما يخفف من ذلك : إحسان العشرة للزوجة التي عقد عليها ،وكأنها معقود عليها بنية التأبيد ،ويتعامل معها بمقتضى ما دلّ عليه قوله تعالى : (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة/229]) وأن استبقاءها وارد فيما لو صلحت معها الحال ، واطمأن البال.
2 ـ ثبت عندي بأخبار العدول الثقات : أنه يكتنف هذا الفعل في بعض البلاد التي تروج فيها سوق هذا النوع من النكاح ، مخالفات شرعية قد تقضي ببطلان العقد منها :
أ ـ عدم وجود الأولياء للنساء المعقود عليهن ، وإنما سماسرة يدّعون بأنهم أولياء لتلك المرأة.
ب ـ ما يحصل من بعض النساء تساهل في العدة بعد طلاق زوجها لها ، فربما عاشرت في الإجازة الواحدة أكثر من ثلاثة رجال طمعاً في المال ـ والعياذ بالله ـ فليحذر المقدم على هذا العقد من الغفلة عن ذلك.
وكذلك ـ أيضاً ـ لا يجوز للرجل أن يكون في عصمته أكثر من أربعة نسوة ، بحيث يغفل عن مراعاة العدة إن هو تزوج أكثر من أربع نساء في فترة متقاربة.
3 ـ من أقدم على هذا النوع من الزواج ، فيجب عليه ـ إن حملت زوجته ـ أن يقوم بما يجب عليه من حقوق تجاه هذا الحمل وأمه الحامل ،فهذا الجنين من مائه ،وهو مسؤول عنه أمام الله تعالى.
ومع وضوح هذا الأمر ، إلا أنه وجد من الناس من يتساهل في ذلك ،والأخبار في هذا كثيرة.
وأنصح كل أخٍ ـ من الذين اطمأنوا إلى جواز هذا العقد ـ أن يفكر جيداً ـ قبل أن يضع قدمه في طريق هذا الزواج ـ في عدة أمور ،منها :
أ ـ الواقع الاجتماعي لأسرته ، فيما لو أعجبه الزوجة واستمر معها .
ب ـ الأولاد ، كيف ستكون العلاقة بهم فيما بعد ؟! وماذا عن تربيتهم إذا كبروا ؟!.
وهل زواجه بهذه الصورة يحقق الغرض الذي لأجله تزوج ـ وهو التخفف من تبعات نقل الأولاد والزوجة ـ أم عاد زواجه هذا على قصده بالنقض ؟!.
ج ـ الجانب الصحي ،والتأكد من سلامة المرأة من الأمراض ،خصوصاً في البلاد الغربية التي تكثر فيها العلاقات المحرمة.
د ـ هل هذا الزواج سيؤثر على الهدف الذي سافرت وتغربت من أجله ؟ أم أنه سيكون مدعاة لانشغالك ،والتأثير على هدفك ؟! .
خامساً : يتبين مما تقدم أن مقام الفتوى في هذه المسألة يختلف من حال لأخرى ، وأرى أنه ليس من المناسب إطلاق الفتوى بالجواز أو المنع دون النظر فيما يحتف بالواقعة من أوصاف وأحوال ،مع أهمية النظر ـ أيضاً ـ في هذا المقام إلى المصالح والمفاسد عند استكمال الأركان والشروط.
والحمد لله رب العالمين ،،،
وكتبه : د.عمر بن عبدالله المقبل