هدي النبي صلى
الله عليه وسلم في تعليم العقيدة
(3/3)
روى
البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم على ـ
النبي صلى الله عليه وسلم ـ سبْي، فإذا امرأة من السبي قد تحلّب ثديها تسقي، إذا
وجدت صبياً في السبي، أخذته فألصقته ببطنها، وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله
عليه وسلم: ((أترون هذه طارحةً ولدها في النار؟))
قلنا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه! فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها))([1]).
كم
في هذا النص العظيم من المعاني والدلالات الإيمانية والتربوية! ومن هذه الدلالات:
1.
التربية
بالحدث: فالنبي صلى الله عليه وسلم رغم انشغاله بهذا السبي الذي قدم، وتأملِه في
كيفية تقسيمه، ومع انشغال الناس ـ أيضاً ـ بهذا، إلا أنه لم يغفل عن استثمار ما
رآه من موقف؛ ليوصل من خلاله معنى من المعاني الشرعية، وحقيقة من الحقائق الإيمانية،
بل وأصلاً من أصول العبادة.
ولقد
كان هذا هدياً معروفاً عنه صلى الله عليه وسلم، لا يكاد يفوّت المواقف من غير
تعليق يوصل من خلاله رسالةً واضحة لمعنىً من المعاني، ومن ذلك:
ما
رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
مر بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته([2])،
فمر بجَدْيٍ أَسَكٍّ([3])
ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: ((أيكم يحب أن هذا
له بدرهم؟)) فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء! وما نصنع به؟! قال: ((أتحبون أنه لكم؟)) قالوا: والله لو كان حياً كان
عيباً فيه؛ لأنه أسكّ، فكيف وهو ميت؟ فقال: ((فوالله
للدنيا أهون على الله من هذا عليكم))([4])،
ونظائر هذا في السنة كثيرة.
ولك
أن تتصور أيهما أسرع وأقوى تأثيراً في النفس: أن يلقي الإنسان خطبة عصماء في بيان
حقيقة الدنيا، أم مثل هذا الموقف المعبّر الذي اهْتَبَلَهُ النبي صلى الله عليه
وسلم؟!
وهذا
الكلام نفسه يقال عن تقرير عظمة صفة الرحمة لله جل وعلا ـ كما سيأتي ـ.
وهكذا
شأن المربي الذي يحمل همّ تربية من حوله على الإيمان والمعاني الفاضلة؛ فإنه يحرص كل
الحرص أن لا يفوّت أمثال هذه المواقف؛ ليربي من حوله بها، فهي ـ في الغالب ـ تُغني
عن عدة كلمات ينشئها المربي من حُرِّ لفظه.
2.
الرحمة
صفة من أعظم صفات الباري جل جلاله وتقدستْ أسماؤه: بل هي من أظهر الصفات التي فطر
الخلق على الإيمان بها؛ لما يرون من آثارها المُبصرة، كما قال سبحانه: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الروم: 50].
وهي
ـ كغيرها من صفات الله تعالى ـ لا يمكن الإحاطة بها، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه : 110]، لكن هذا
لا يعني ترك بيان معانيها، وتقريب ذلك إلى أفهام الناس، بدليل هذا الحديث.
3.
كما
كان هذا الحديث مقرباً لشيء من معاني وآثار هذه الصفة العظيمة من صفات الله تعالى
(الرحمة) فهو ـ أيضاً ـ دالٌ على معنى عظيمٍ، وأصلٍ من أصول العبادة، ومحركٍ قوي
من محركات القلوب، ألا وهو: الرجاءُ والطمعُ في رحمة الله تعالى([5])،
وفتحُ هذا الباب أمام القانطين من رحمة الله تعالى، وقطعُ الطريق على المقنّطين من
رحمة الله وفضله، وأولهم عدو الله الأكبر إبليس، فهو يُبْرِزُ هذا المعنى -أعني
القنوط- في وجه الراغبين في التوبة بعد حياة مليئة بالكفر، أو بالفسوق والفجور،
والبعد عن الله تعالى، فيقال لهم: تأملوا هذا الحديث وما فيه من تعظيمٍ لهذا
المعنى.
وليتأمل
كل من ضخّم الشيطان ذنوبه ومعاصيه في نفسه قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: ((لله أرحم بعباده)) فقد أضاف عبوديتهم له سبحانه،
إيذاناً بالعفو والمغفرة والرحمة!
وإنك
لتعجب كيف يقنط إنسانٌ من رحمة الله وهو يقرأ هذا الحديث الصحيح! أو يقرأ قول الله
تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر : 53]! ولهذا
كان من فقه النووي ـ رحمه الله ـ أن أورد حديث عمر هذا في باب الرجاء من كتابه
المبارك (رياض الصالحين).
4.
أهل
السنة حينما يتحدثون عن الرجاء، فإنهم يقرنونه بصِنْوه، وهو الأصل الثاني من أصول
العبادة، وهو: الخوف، لذا فإن من فقه هذا الباب: أن يكون
الإنسان متوازناً بين هذين الأصلين، فإن قَرُبَ الأجل استُحب للمؤمن أن يغلب جانب
الرجاء من حسن الظن بالله تعالى؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: ((لا
يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل)).
وههنا
ملحظ في هذه المسألة ـ وهي مسألة الخوف والرجاء ـ ينبغي التنبه له:
أننا
إذا كنا نتحدّث مع مجتمع أو شخص مقبل على التوبة، وقد غلب الخوف عليه واشتد، فلا
يحسن حيئنذٍ أن نتحدث عن الخوف، بل المناسب هنا: الحديث عن الرجاء، وفتح أبواب
التوبة أمام العصاة والمذنبين؛ لأننا في مقام كهذا لسنا في مقام تقرير الاعتقاد
حتى يقال: لا بد من اكتمال الصورة، والحديث عن باقي الأصول (المحبة والرجاء)! بل
نحن في مقام معالجةٍ لحالة مرضية، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدثهم
بهذا الحديث الذي يدل على سعة رحمة الله، لم يستدرك في حديثه ويحدثهم عن مقام
الخوف!
وكما
أنه لا يحسن توسيع باب الرجاء أمام أناس عتاة مجرمين، قد لجوا في طغيانهم، واستمرأوا
الذنوب والمعاصي، فكذا الحال هنا.
وإنما
نبهت على هذا لأننا نلحظ من بعض الوعاظ ـ وفقهم الله ـ من يغيب عنه هذا الهدي
النبوي في تقرير هذه المعاني العظيمة، وينسى أو يخفى عليه أن لكل حالةٍ لَبوسها،
والله تعالى أعلم.
([5]) هكذا سماها شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كما في مجموع
الفتاوى (1/ 95) حيث يقول: "ولا بد من التنبيه على قاعدة تحرك القلوب إلى
الله عز وجل، فتعتصم به، فتقل آفاتها أو تذهب عنها بالكلية، بحول الله وقوته،
فنقول: اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء...والرجاء
يحركه مطالعةُ الكرم والحلم والعفو، وما ورد في الرجاء والكلام في التوحيد واسع".