هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم العقيدة1-3

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2019-02-28 07:16:21

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم العقيدة

(1/ 3)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فهذه ورقة من ثلاث حلقات نقف فيها على شيء من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في إيضاح وغرس أسس العقيدة ـ بمعناها الشامل ـ في نفوس الناس: رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، مسلمين وكفاراً.

وستركز هذه الوقفات على تجلية بعض المعاني، ومواضع القدوة في ذلك الموقف أو تلك القصة؛ خاصة ما يخدم ما نحن بصدده من الحديث عن جوانب العقيدة؛ لعل ذلك مما يعين على ترسّم هديه، واقتفاء أثره صلى الله عليه وسلم في غرس هذا الأصل العظيم، الذي يقع التهاون به أحياناً، أو الخطأ في طريقة بيانه وتوضيحه أحياناً أخرى.

ولستُ بحاجة إلى بيان أهمية هذا الموضوع؛ فما تحرك القلم، ولا سُوّدتْ هذه الأوراق، ولا رُصِفتْ هذه الأحرف إلا استشعاراً لشرف هذا الموضوع، وضرورة المساهمة ولو بالقليل في تجلية هذا الجانب المهم من هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ولتكن البداية بهذا الموقف:

عن أبي هريرة س قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214]: ((يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله؛ لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب! لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنكِ من الله شيئاً، يا فاطمة بنت رسول الله! سليني بما شئتِ، لا أغني عنك من الله شيئاً))([1]).

وفي حديث ابن عباس قال: لما نزَلتْ: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ صَعِدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الصَّفا، فجعل يُنادي: ((يا بني فِهْرٍ! يا بني عدِيّ))! - لِبُطونِ قُريشٍ - حتى اجتمعوا، فجعل الرجلُ إذا لم يستْطِعْ أَن يخرجَ أرسل رسولاً ليَنْظرَ ما هو، فجاء أبو لهبٍ وقُريشٌ، فقال: ((أرأيْتَكُم لو أخبَرْتُكم أن خَيْلا بالوادي، تُريدُ أن تغير عليكم، أَكُنْتمْ مُصدِّقيَّ؟)) قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليكَ إلا صِدقاً، قال: ((فإِنِّي نذيرٌ لكم بين يديْ عذاب شديدٍ))، فقال أبو لهب: تَباً لك سائرَ اليومِ، أَلهذا جمَعْتنَا؟ فنزلت: ﴿تَبَّتْ يدَا أبي لهبٍ وتبَّ * ما أغني عنه مالُه وما كَسَبَ﴾ [المسد:1، 2].

وفي رواية: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرجَ إلى البَطْحاء، فصَعِدَ الجبَلَ، فنَادى: ((يا صَبَاحاهُ! يا صباحاهْ!))؛ فاجتمعت إليه قُريشٌ.. الحديث([2]).

وفي هذا الموقف تتجلى لنا جملة من العِبَر، منها:

1.    سرعة الامتثال من النبي صلى الله عليه وسلم لتنفيذ أمر ربه تعالى، وهذا من أظهر معاني العبودية، ألا وهو: سرعة الاستجابة والتسليم لأمر الله تعالى، بدون تردد، أو تباطؤ، أو التماس للمعاذير، وهو بذلك ـ صلى الله عليه وسلم ـ يربي أمته بنفسه على التحقق بهذا المعنى العظيم، والذي دلت عليه نصوص كثيرة مشهورة، ليس هذا موضع ذكرها.

2.    لما كان المقام مقامَ نذارةٍ وبيانٍ لخطورة الشرك، وعدمِ أثرِ النَّسَب في دفع العذاب ورفعه؛ وقع منه هذا التفصيلُ الدقيق، والتدرجُ في التنصيص على أسماء أشخاص بأعيانهم من خاصة أقاربه، مع أنه لو اقتصر على الإنذار الذي يخص قريشاً لوقع الامتثال، ولكن هذا كلّه من أجل قطع الطريق على من يظن أن آصرة النسب قد تنفع من أعرض عن التوحيد!

وقد تأكد هذا المعنى بأجلى صوره في قصة أبي طالب ـ عم النبي صلى الله عليه وسلم ـ عند وفاته، وسيأتي حديث مفصّل عنها في حلقة قادمة ـ إن شاء الله ـ.

وهكذا الداعية الموفق؛ يفصّل في مقام التفصيل، ويُجمل في مقام الإجمال، ويراعي موقع المسألة التي يتحدث فيها، ومنزلتها؛ فيعظّم ما يستحق التعظيم، ولا يضخّم ما لا يستحق ذلك.

3.    يلاحظ أن هذا النداء كان مبكراً، أي في أوائل العهد المكي، وقد شمل البضعة النبوية: فاطمة ـ رضي الله عنها ـ مع أنها كانت إذ ذاك صغيرة، وفي هذا تأكيد على عناية النبي صلى الله عليه وسلم بمخاطبة الصغار بالتوحيد، والتحذير من الشرك.

فهل يعي هذا المربون؟ فيحرصون على مخاطبة الصغار بقضايا التوحيد بما يناسب سنّهم وأفهامهم، وتحذيرهم من المناهي الفعلية واللفظية التي قد تقدح في التوحيد؛ ليرتضعوا هذه المعاني في وقت مبكر، فإن هذا سيكون له الأثر الإيجابي على تنشئتهم وتربيتهم.

4.    هذا الحديث أصلٌ فيما يعرف بـ (فقه الأولويات)، فالله تعالى ـ وهو العليم الحكيم الخبير ـ أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بالبدء بدعوة أقاربه في وقت مبكر؛ إذ هم أحق الناس بذلك، وخاصة دعوتهم إلى التوحيد بمعناه الشامل.

وهذا كما أنه مقتضى الشرع، فهو مقتضى العقل، فهل يعي هذا جيداً الدعاة إلى الله؟!

إن من المؤسف أن بعض المشتغلين بالدعوة، أغفل هذا الجانب إغفالاً نال أهل بيته الذين ولاّه الله أمرهم! وهذا لعمر الله من الخطأ، ومن الخلل في المنهج، وما هذا الخطاب الإلهي والتطبيق النبوي إلا أكبر دليل على ذلك.

5.    وقوف النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك المشعر المرتفع ـ الصفا ـ واستخدامُه أساليب النداء المفصّلة، ورفع صوته بندائه؛ كل ذلك إعلانٌ وإشارةٌ إلى أهمية ما سيلقيه من كلام، ولقد وصلت الرسالة سريعاً إلى مستمعي ذلك النداء النبوي، حيث كان من لم يستطع أن يذهب أرسل رسولاً.

وهكذا ينبغي على الداعية؛ أن يوظف كل ما يقدر عليه من وسائل مكانية وبيانية في سبيل تبليغ دعوته للخلق، ولا يصح أن يتردد في استخدام أي وسيلة مباحة عنده، خصوصاً إذا كان لها تأثير واسع، كالكتب، والإذاعات، والفضائيات، أو الإنترنت؛ فهذا هدي نبوي واضح، وجادة مطروقة للدعاة إلى الله في كل عصر ومصر.

6.    قد يبتلى الداعية بالصدود والإعراض، بل والأذى من قِبَلِ أقرب الناس إليه نسباً، كما وقع من الشقي أبي لهب، وهنا لا بد للداعية من التحلي بالصبر والحلم، وعدم الدخول في مهاترات كلامية لا قيمة لها، أو جدال يشغل الداعية عن المهمة الكبرى التي لأجلها رسم طريقه.

هاهو نبيك صلى الله عليه وسلم يسمع كلمة عمّه أبي لهب، فلا يزيد على أن أعرض عن هذه الكلمة التي لو صدرت من رجل بعيدٍ لكانت قاسية، فكيف وهي من عمّه! الذي يُنْتَظرُ منه ـ وقد عَرف صدق ابن أخيه ـ ما لا ينتظر من غيره من النصرة والإيواء!

ولقد تولى الله تعالى الدفاع عن نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل في عمّه سورة تحكم بشقائه وخسرانه ـ عياذاً بالله ـ وهكذا كل من صدق مع الله، وأخلص له في دعوته، وتجرد من حظوظ نفسه؛ دافع الله عنه بالكيفية التي يختارها سبحانه ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ [الحج: 38] ومن كان الله نصيره فلن يخذل أبداً.

 

وللحديث بقية إن شاء الله.

 



([1]) مسلم ح(525)، وأصله في البخاري ح(3336).

([2]) ينظر في مجموع رواياته وألفاظه: جامع الأصول (2/ 286).

  • الكلمات الدالة
2049 زائر
0 | 0
المقال السابق
المقال التالى

روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات