مناسبات غير مؤجلة

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2017-03-28 11:56:03

مناسبات غير مؤجلة

 

إذا كانت العبارةُ الشهيرةُ: "لا تؤجِّل عمل اليوم إلى الغد" حاضرةً في حياة الناجحين؛ فإنها في المناسبات والمواعيد التي لا تحتمل التأجيل أكثر حضورًا وأثَراً.

أحدُ الأصدقاء كان له موعدٌ مع وفدٍ سيستقبلهم في بيته، ففجَأَه خبرُ وفاة صديقٍ له، فذهب إلى جنازته ووكّل من يستقبل الوفد، فلما عاد إلى البيت متأخّراً اعتذر منهم، وبيّن السبب وقال: الموت ليس له موعدٌ مسبَق!

وهذه الجملة الأخيرة ـ الموت ليس له موعد مسبَق  ـ تُترجِم الحكمة في التعامل مع أمثال هذه المواقف، فالإنسان لا يموت إلا مرةً واحدة، وأهلُ البيت ـ في مصابهم ـ بحاجة لمن يُسلّيهم ويُصبّرهم، ويخفّف عنهم، وإذا ذهب وقتُ الصدمةِ الأولى؛ لم يكن للتعزيةِ والتسلية موقعَها المناسب.

وهذا الموقفُ الحكيم، يُقابله موقفٌ مُغايِر لأحد الإخوة الذي فُجِعَ بموت أخيه، ولكنه استغرب من بعض زملائه في العمل، ممن جاوزت صحبتُهم عِقدين من الزمان، لم يكلِّف أحدٌ نفسَه بالاتصال فضلاً عن الحضور! بل عزّاه بعد مدة طويلة - نسبيًا - قد برَدَتْ معها المصيبة.

ومثل ما قيل في مناسبة العزاء يُقال في مناسبة الزواج؛ فهي نادرة التكرر، فبالإضافة إلى المعنى الشرعي المتعلق بإجابة الدعوة بشروطها المعتبرة، ثمّةَ معنىً آخر يتعلق بكون هذه المناسبة من مناسبات العُمر، وقد يكون الحاضرُ لا يُلقي بالاً لأثر حضوره - لكثرة حضوره للمناسبات، وعنايته بها - بينما صاحب الدعوة يعني له ذلك الشيءَ الكثير.

لقد كاشف الشيخُ الأديب علي الطنطاوي رحمه الله نفْسَهُ مع معضلة التسويف والتأجيل في مقالة جميلة، أورد فيها نصيحةً ثمينةً لوالده فقال: "لقد كان أبي - رحمه الله- كلما أيقظني لصلاة الصبح يقول لي: "لا تتراخَ، اقفز قفزاً"! فأتراخى وأتكاسل، ثم أتناوم فلا أَرُد، أو أردّ ولا أقوم، حتى يملّ فيدعني.

وأنا أعض أصابعي الآن ندَماً لأني لم أسمع هذه الوصية: «اقفز قفزاً»، ولو أني سمعتُها وعملتُ بها، أو لو أنه أجبرني عليها؛ لتغيرت حياتي، ولما فشلت في إعداد هذا الحديث، ولكنتُ في دنياي وفي ديني خيراً مما أنا عليه اليوم، وأنا - إلى الآن - كلما أردت أن أقوم في الصباح أحسّ هذه الكلمة، كلمة أبي تُدوّي في أذني: "اقفز قفزاً"...إن الذي لا يقفز إلى الفريسة تَفلِت منه، ومن لا يغتنم الفرصة في وقتها لا يَجدْها، ومن لا يَضرب الحديد حامياً لا يستطيع أن يضربه إذا بَرَد، والذي يؤجّل ما يجب عليه لا يَقدِر أن يؤدّيه كاملاً"([1]).

والملاحَظ أن غالبَ الذين يؤجِّلون أعمالهم يعيشون فألاً بشكلٍ ملحوظ ـ فيما يخصُّ قدرتهم على الإنجاز، وأنهم مسيطرون على الوقت والمهام... الخ ـ ثم لا يشعرون إلا والأعمال متراكمة، والإنجاز دون المطلوب بكثير، أو ربما خرج الإنجاز مشوّهًا.

والموفَّق من أنزل الأعمال والأحوال منزلتها، وبادر الفُرَص، وراعى المناسبات والأوقات، فتلك علامةُ سدادٍ ورشد، ويُدرك بها المرءُ خيراً كثيرًا، وبضدّه تفوتُ عليه من مقامات الكمال بحسب تفريطه وتقصيره.



([1]) مع الناس (ص: 59).

3807 زائر
3 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات