الوطنية بين مفهومين

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2017-02-23 19:27:44

الوطنية بين مفهومين

إن الحمد لله....، أما بعد:

فمن المعاني التي أَطلقت قرائحَ الشعراء، وألهبت مشاعرَ الأدباء، وزلزلت مكامِن الوجدان؛ ذلكم المعنى الذي اتفقت عليه الفِطَر السليمة.. معنىً عبّر عنه أصدقُ الناس لهجة: أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، إنه حب الأوطان، يقول صلى الله عليه وسلم عن مكة: ((إنكِ لخيرُ أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خرجت))([1]).

ولما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعلم أنه سيبقى مهاجرًا؛ دعا الله أن يحبب المدينة إليه - كما في الصحيحين - فقال: ((اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشد))([2]).

وكان صلى الله عليه وسلم إذا قَدِم من سفر فأبصر درجات المدينة أَوْضَعَ ناقته (أي أسرع بها)([3]).

 قال ابن حجر رحمه الله: "فيه دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه"([4]).

هذا الحبّ الفطري، صار ضدُّه ـ وهو إخراج الإنسان من بلده التي أحبّها إجباراً وقهراً ـ صار عقوبة من العقوبات المقررة شرعاً، وهي عقوبة تغريب الزاني البكر.

ومما يؤكد ما تقدّم: أن الله تعالى جعل من مقامات عباده الصالحين: تركَ أوطانهم حفاظاً على سلامة دينهم، وصبرهم على أذى أعداء الله ورسله، وتحمّلهم أذى فراق البلدان في ذات الله: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّه﴾[الحج: 40]، وفي فضل المهاجرين يقول الله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا...﴾[الحشر: 8]، وفي سياق الحديث عن المنافقين: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ...﴾[النساء: 66].

ومن الأوطان ما يُحَبُّ ولو لم يسكنها الإنسان، وهما: مكة والمدنية والمسجد الأقصى، يحبها الإنسان لحب الله ورسوله لها، ولما لها من المكانة المقدسة في الإسلام.

إذا تقرر هذا ـ وهو أن حب الوطن الذي ينتمي إليه الإنسان وعاش فيه وترعرع شيء فطري أقرّته الشريعة ـ فليُعلم أن هذا الانتماء للبلاد لا يُلام عليه الإنسانُ ما دام أنه لا يتعارض مع الولاء للدِّين، والنصرة للشريعة، فقد بقيت نسبةُ سلمان رضي الله عنه إلى فارس، وبلالٍ إلى الحبشة، وصهيب إلى الروم ـ وإن لم يكن رومياً في الأصل ـ ولم يتعارض هذا مع نصرهم لله ورسوله، ومَنْ يظن أن هناك تعارضًا بين هذا وذاك فلم يقرأ النصوص جيداً.

ومَنْ غلا، وجعلَ الوطنية هي الأصل، وقدّمها على الشرع، ومسخ بها أصولَ الولاء والبراء، والأخوة في الله، والنصيحة لله ورسوله؛ فإننا لا نقابله بغلوّ من الجهة الأخرى ونلغي هذا الحسّ الفطري، ما دام أنه في حدود الشريعة، والوسط خيارٌ بين الغالي والجافي.

أيها الإخوة: إن الوطنية الحقّة تقتضي من الإنسان: الحرصَ على اجتماع كلمةِ أهله، ونبذ كل أسلوبٍ ووسيلةٍ تدعو إلى التفرق، والتوكيد على أصل السمع والطاعة بالمعروف لمن ولّاه الله أمرَ المسلمين فيه، وتوقير علمائه، خاصةً ورثة الأنبياء، المبلِّغين للشريعة.

والمواطنة الحقّة تدعو صاحبَها إلى القيام بما أُنيط به من واجبات شرعية أو تنظيمية لا تخالف الشرع، ومحاربة الفساد بكل صوره وأنواعه: الفساد المالي، والفساد السلوكي الذي يَسعى لنشره وتطبيعه في المجتمع بعضُ مَنْ غفلوا عن سنن الله في الأمم والمجتمعات التي تنتشر فيها المنكراتُ ويطبّعُ فيها المنكر: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾[الإسراء: 16]، فالواجب الشرعي، والمواطنة الحقّة التي تدعونا للغَيرة على بلادنا وأوطاننا: أن نسعى بالطرق الشرعية لإلغاء كل مظهر من مظاهرِ الفساد الأخلاقي والسلوكي؛ لأن تطبيعه وتقريره يعني خرابَ الأوطان والديار، لأن ترك السفهاء يعبثون بسفينة المجتمع يعني غرَقَها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثَلُ القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرَقْنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجَوا، ونجَوا جميعًا" رواه البخاري([5]).

المواطنة الحقّة ـ يا عباد الله ـ  هي التي تدفع صاحبَها إلى أن يحترم أنظمةَ بلَدِه، ويحافظ على هويته الإسلامية، ومَرافِقِه العامة، وموارده الاقتصادية.

المواطنة الحقّة هي التي تدفع المسلمَ إلى الدفاع عن بلده من الأعداء، يدافع عنه لكونه بلدًا إسلاميًا اعتُدي عليه، لا للتراب ونحو ذلك، كما قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله.. وإننا لنرجو لمن صحّت نيتُه في القتال على الحدود لِدَفع كيد المجرم الحوثي، ومِن ورائه إيران التي تريد تقويض أمن بلدان المسلمين؛ إننا لنرجو لهم أن يكون قتيلهم شهيداً، ومرابطهم على خيرٍ عظيم.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة....


 

الخطبة الثانية

الحمد لله ...، أما بعد:

فإذا عُلم هذا ـ يا عباد الله ـ فلنحذر من أناسٍ تسلّقوا على هذا المفهوم "مفهوم المواطنة" وفصّلوه على مقاساتهم الفكرية الملوّثة، وثقافاتهم المستوردة، والذين ابتُليت البلاد بهم من طرفين:

الأول: غلاةٍ، جحدوا نعمةَ الله عليهم في وطنٍ آمن، شربوا من مائه، وأكلوا من خيره، واستظلوا بشجره، رضوا أن يكونوا مطيّة للأعداء الحاقدين، وأداةً للمتربصين، فظلموا أنفسهم وظلموا أهليهم وبلادهم، فتشربّوا فكراً خبيثًا، كفّروا به القريب البعيد، وحملهم على قتل الوالدين والأعمام والأخوال، فضلاً عن غيرهم من الناس، وسعوا إلى زعزعة الأمن، وإتلاف أنفسهم بقتلها تفجيرًا وتفخيخًا، وقصدِ المصلين في مساجدهم، وأماكن تعبدهم!

الثاني: وطرفٍ آخر يقابل هؤلاء: لا تقل خيانتُهم عن الغلاة إن لم يزيدوا عليه!

إنهم أناسٌ من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، غُزيت عقولهم، وأُشرِبت قلوبُهم حبّ الغرب، فآمنوا بكل ما فيه من سيءٍ وحسن، وحلوٍ ومرّ، فأورثهم ذلك انتقاصًا لأهلهم ومجتمعاتهم، ولَوماً لأوطانهم، وسخريةً مِن أعرافهم وتقاليدهم المعتبرة، والتي لا تُناقض شرعاً، فانقلبتْ فضائلُ مجتمعاتهم إلى رذائل، ومحاسنُه إلى مساوئ! وصار التمسكُ بالدين وآدابِه تخلّفا، فترْجموا هذه المعاني التي تشرّبوها في مقالاتهم وفنونهم، ومقابلاتهم على وسائل الإعلام ومواقع التواصل، وصار همهم الأكبر: التشهيرُ بهذا المجتمع، وإظهار معايبه، وتشويه سمعته في الداخل والخارج.

 والسؤال: هل من الوطنية الحقّة، وقبل ذلك: النصيحةِ الشرعية لأئمة المسلمين وعامتهم: القدحُ في البلاد وأهلها المحافظين؟ والتنقص منها ومن أنظمتها عبر وسائل الإعلام المتنوعة أمام العالم؟

أين المواطنة ممن يجعل العدوُ المتربصُ كلماتِه ومقابلاته شواهد يستشهد بها علينا، ويجعلها سهاماً موجهة إلينا؟!

إن من أعظم صور الخيانة للوطن المسلم: نشرُ الفكر المضاد للعقيدة الصحيحة، والتشكيك في مصادر التلقي ـ القرآن والسنة بفهم سلف الأمة ـ وشقُّ العصا، وتمزيق الناس بنشر التصنيفات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي من شأنها تأليبُ المجتمع بعضه على بعض.. سواء كان هذا الفكر موغلاً في الغلو والتكفير، أو كان موغلاً في نبذ الوحيين وكونهما مصدر التشريع.

هل من الوطنية ـ يا عباد الله ـ أن يستمر كاتبٌ في صحيفةٍ أو مذيع في قناة فضائية أو في مواقع التواصل، لا همّ له إلا الحديث عن كل مظهرٍ يمت للدين بِصِلة، فشغله الشاغل: العلماءُ والدعاةُ والمصلحون، وتصنيفهم، واستعداءُ الدولة عليهم، والطعن في مؤسسات البلاد الشرعية أو الأمنيةِ أو مناهجِ التربية والتعليم، في أسلوب يعتمد تضخيم الأخطاء، والتركيز عليها، والطعن في المقاصد، وربما ألصق بهم تهمةَ الإرهاب التي أصبحت اليوم التهمةَ الجاهزة لكل من يخالف هؤلاء!

وربما ربَطَهم بتنظيمٍ دولي محظور في بلده، يستعدي بذلك عليهم الجهات الأمنية، وهو لا يدري أنه يستعدي الدول والطامعين على بلاده! وربما كانت بعضُ تلك المنظمات والمؤسسات ـ التي يصرح باسمها أو يلمّح ـ جزءً من أجهزة الدولة، ولكن عداءه أعماه عن تبصّر عاقبةِ ومآل قوله، وأن هناك مراكز رصد أجنبية، وهيئات دولية ترصد وتتابع وتترجم وتترقّب مطامعها في بلادنا، ليجعلوا هذه المقالات والبرامج الفضائية عذراً لهم في التضييق على مناهجنا وعلمائنا ودعاتنا، والمنظمات والهيئات الخيرية في بلادنا، في دعاوى شهودُهم فيها بعضُ كُتّابنا وإعلاميينا.. ألا بئس هذا الصنف من الناس!

ألا ما أعظم جريرتهم على أوطانهم، وخيانتهم لها.. نسأل الله أن يقطع ألسنتهم، وأن يوفّق الغيورين على الوطن؛ لكف شرّهم، وكسر أقلامهم، وكتم أصواتهم، ومن لم يعتبر بخونة الأوطان من حولنا؛ فمتى يعتبر؟

أيها المسلمون، إنَّ الحب الحقيقي للوطن، والحرص على بقائه قوياً عزيزاً لا يُختصر في رفعِ  صورة أو علم، أو ترديد الاسم دون الانتماء الحقيقي الذي يحمل على الذبّ عنه والدفاع عن مقدراته ومكتسباته، والتعاون بين أفراده في كل سببٍ يدعو إلى عزّه، والمحفاظة على أمنه، وجمع كلمته.


 

 



([1]) مسند أحمد ح(18715)، سنن ابن ماجه ح(3108)، صحيح ابن حبان ح(3708)، سنن الترمذي ح(3925) وقال: حسن صحيح غريب.

([2]) متفق عليه: البخاري ح(1889) مسلم ح(1376).

([3]) صحيح البخاري ح(1802).

([4]) فتح الباري لابن حجر (3/ 621).

([5]) صحيح البخاري ح(2493).

2603 زائر
0 | 0
المقال السابق
المقال التالى

هذا ولي الله


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات