ابن سعدي ومركزية الأخلاق

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2016-12-12 15:52:51

ابن سعدي ومركزية الأخلاق

 

عرفَ الناسُ العلامةَ السعدي (ت 1376هـ) عالماً محقِّقاً، وما كانت مؤلفاته إلا أحد الشواهد على رسوخه وطول باعه في العلم.. وكان من القبول والثناء عند الناس إبان حياته وبعد وفاته بالموضع الذي لا يَخفى.

ولم ينل الشيخُ ـ رحمه الله ـ هذه المكانة لأنه عالمٌ يُلقي دروساً أو يصنّف كتباً، أو يخطب كلَّ جمعة على المنبر فحسب؛ بل كان عالمًا مربيًا، قريبًا من الناس، يعيش همومهم، ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم، ويسعى في حوائجهم، ويجدون منه التوجيه المغلّف بالرحمة.. ينصح ولا يفضح، يواسي ولا يسيء، فكان لنصائحه الأثر البالغ في نفوسهم، حتى صارت سيرته مما يتناقله الأبناء عن الآباء، والأحفاد عن الأجداد في بلده (عنيزة) حتى يومنا هذا، ومَنْ سمع من تلاميذه أو قرأ لهم شيئاً من ذلك؛ أدرك هذا بوضوح في نبرات أصواتهم، ونبض حروفهم([1]).

ومع يقين الجميع بأن القدوة المطلقة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن الله تعالى من رحمته بالناس أن يقيم لهم بين فينة وأخرى أئمة في العلم والعمل؛ ليكون التأثر بهم أكثر وأقوى، فالقدوة المشاهدة ليست كالغائبة، ولهذا قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24].

وإن الهمَّ الرسالي الذي كان يحمله الشيخ، والذي ترجمه بالثبات على المنهج، والصبر على التعليم، وحسن الخُلق مع عموم الناس؛ هو أحد الجوانب التي تتجدد الحاجةُ للتذكير بها في واقعنا اليوم؛ فلقد انفتح على الناس اليوم من وسائل التواصل ما لم يكن من قبل، وهذا يحتّم عليهم مزيدًا من الصبر على لأواء الناس ومشاكلهم قدر المستطاع،  واستفراغ الوسع في البذل والنفع، واحتمال الأذى.

ومتى غاب أو ضعف حضور مبدأ الصبر، وحسن الخلق، والإحسان إلى الخلق بكل ما يمكن؛ فسيغيب ويضعف أثرُ أهل العلم في مجتمعاتهم.

لقد كثرت الشكوى من بعض الناس مما يجدونه من بعض المنسوبين إلى العلم من بعض الجفاء والغلظة، أو الصدود عن قضاء حوائجهم في أخص ما يحتاجون إليه من أهل العلم، وهي الفتوى وإرشاد الحيارى وطالبي الحق! وهذا مما لا يليق بورثة العلم الشرعي المقتبس من سنا النبوة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

ولستُ أُنكر أن في الناس من لا يقدّر الوقت، ولا يراعي انشغالَ الشيخ، ولا يَعذر، لكن هؤلاء غالباً تضطرهم الحاجة للسؤال، وهم يفترضون فيمن أكرمه الله بحمل شيءٍ من الإرث النبوي الصبرَ والاحتمال.

والناس يحبون في العالم وطالب العلم السعيَّ في حوائجهم؛ بقضائها أو الشفاعة فيها، فإن تعذّر ذلك فلا أقلّ من ملاقاتهم بالبشاشة والسماحة، على حدّ قول المتنبي:

لا خيل عندك تهديها ولا مالُ ** فليُسعد النطقُ إن لم تُسعد الحالُ

وأذكرُ في هذا المقام صورتين من صور بذل علماء هذه الأمة، أدركنا واحدة منها، وقرأنا الأخرى في عيون التراجم:

أما التي قرأناها، فهي ما ورد في ترجمة محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة، أبو عمر المقدسي ـ رحمه الله ـ(ت 607 هـ)، حيث وصفه الذهبي بوصف معجب، فقال: "وكان قد جمع الله له معرفة الفقه والفرائض والنحو، مع الزهد والعمل، وقضاء حوائج الناس، وكان يحمل هم الأهل والأصحاب، ومن سافر منهم يتفقد أهاليهم، ويدعو للمسافرين، ويقوم بمصالح الناس، وكان الناس يأتون إليه في الخصومات والقضايا، فيصلح بينهم، ويتفقد الأشياء النافعة كالنهر، والمصانع والسقاية، وكانت له هيبة في القلوب"([2]).

وأما التي أدركناها: فهي أن شيخنا الإمام عبدالعزيز ابن باز ـ رحمه الله ـ كان الضعفةُ يزدحمون في مخيّمه في الحجّ، فكان بعض مرافقي الشيخ يتضايقون، فيقول لهم: هؤلاء مساكين، وكلها أيام وتنتهي هذه الرحلة.. أصبروا، واحتسبوا.. ونحو هذه العبارات، التي كان الشيخ يمتصُّ بها غضبَهم ويخفّف بها من تعبهم.

أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا ـ يا جريرُ ـ المجامعُ



([1]) ينظر في هذه المواقف: كتاب "مواقف اجتماعية من حياة الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي"، لابنه محمد وحفيده مساعد السعدي، ورسالة عنوانها: "من حكايات الشيخ عبدالرحمن السعدي" لإبراهيم التركي، وترجمة موسعة للشيخ في كتاب "تراجم لتسعة من الأعلام" لفضيلة الدكتور محمد بن إبراهيم الحمد [الترجمة السابعة].

([2]) تاريخ الإسلام (13/ 172).

3668 زائر
0 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات