رجال الفجر

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2016-05-05 17:20:12

رجال الفجر ([1])

إن الحمد لله ...، أما بعد:

فأوصيكم ونفسي ـ أيها الناس ـ بتقوى الله تعالى.

عباد الله: حديثنا اليوم عن فئة موفّقة، وجوههم مسفرة، وجباههم مشرقة، وأوقاتهم مباركة...عن قوم شرّفهم الله بارتياد بيوته في وقت هجعة الناس..أتدري من هم؟! إنهم: أهل الفجر، ورواد بيوت الله تعالى في الظلمات.

إنهم أهل الفجر .. أولئك الذين حرصوا على هذه الشعيرة، واعتنوا بها، واستقبلوا بها يومهم، واستفتحوا بها نهارهم..

إنهم أهل الفجر الذين تشهد لهم ملائكة الرحمن أمام الله عز وجل بأدائها مع الجماعة، فهي الصلاة التي قال الله عنها: ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودا﴾[الإسراء: 78] أي: تشهدها الملائكة.

إنهم أهل الفجر الذين أجابوا داعي الله وهو ينادي: "حي على الصلاة .. حي على الفلاح".

إنهم أهل الفجر الذين أيقنوا أن "الصلاة خير من النوم".

إنهم أهل الفجر الذين استشعروا معاني العبودية لله عز وجل في نومهم وقيامهم.

إنهم أهل الفجر الذين اغتبطوا وفرحوا بفضل الله وإعانته: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس: 58].

إنهم أهل الفجر الذين دعاهم داعي الإيمان، فحرصوا على نيل الثواب الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله:  «من صلى العشاءَ في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله»([2]).

وليس هذا فحسب؛ بل إن لكم وعداً نبويًا صادقًا، فاسمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يحدّث به فيما رواه جرير ـ رضي الله عنه كما في الصحيحين ـ قال: كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: "أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة  قبل طلوع الشمس وقبل غروبها - يعني العصر والفجر -، ثم قرأ جرير: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾[طه: 130]([3]).

يا أهل الفجر: ألا ترضون أن يذهب الناسُ بالدنيا، وترجعون أنتم بالبركة في الأوقات والنشاط، وطيب النفس، وأنواع البركات، ودخول الجنات، ونزول الرحمات؟! ففي الصحيحين عنه  صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى البردين دخل الجنة"([4])، والبردان هما: الفجر والعصر،  وفي صحيح مسلم عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يلج النارَ أحدٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها"([5]) يعني الفجر والعصر.

يا أهل الفجر، يا رواد المساجد في الظلم..، هنيئًا لكم حفظ الله لكم، وكلاءته لكم برعايته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله حتى يمسي"رواه مسلم([6]).

يا أهل الفجر.. هنيئًا لكم طيب أنفسكم، وانشراح صدوركم، وانتصارها على الشيطان، الذي حدّثنا عنه  صلى الله عليه وسلم بقوله: "يعقد الشيطانُ على قافية رأس أحدكم ثلاث عُقَد ـ إذا نام ـ بكل عقدة يضرب كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عنه عقدتان، فإذا صلى انحلت العُقَد؛ فأصبح نشيطًا طيبَ النفس، وإلا أصبح خبيثَ النفس كسلان" متفق عليه([7])، فلينظر من يفوّت صلاة الفجر ويعتاد ماذا باء به، وبم رجع؟!

يا أهل الفجر .. يكفيكم شرفاً شهادة ملائكة الرحمن لكم عند الله، ففي الصحيحين عنه  صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم ـ وهو أعلم بهم ـ: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون"([8]).

يا أهل الفجر خاصة، ويا من تحافظون على صلاة الجماعة عامة: أبشروا! فوضوؤكم درجات، وممشاكم إلى المسجد حسنات، وجلوسكم فيه رحمات من ربكم وصلوات، وإعداد للمنازل الخالدة في الجنات، كما في المتفق عليه: "من غدا إلى المسجد أو راح؛ أعد الله له في الجنة نُزلا كلما غدا أو راح"([9]).

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله ! قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط"([10]).

يا أهل الفجر.. هنيئًا لكم السلامة من وصمة النفاق لمن تخلّف عن هذه الصلاة المشهودة، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أثقل صلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا..."([11]).

فسلام عليكم معشر المحافظين على صلاة الفجر حين تركتم السهر، وودّعتم السَّمَر، وفزتم بعظيم الأجر.. وسلام عليكم يوم لبيتم داعي الإيمان..وسلام عليكم.. يوم آثرتم ما يحبه الله من القيام بهذه الشعيرة في بيوته على لذيذ الفراش، وهنيء المنام، وسلام عليكم..يوم افتتحتم يومكم بفريضةٍ هي أحب الفرائض إلى الله سبحانه؛ فبشراهم بتوفيقه وإعانته.

اللهم اجعلنا من مقيمي الصلاة وذرياتنا، ربنا وتقبل دعاء.

بارك الله لي ولكم في القرآن....


الخطبة الثانية

الحمد لله...، وبعد:

فلئن كان لهذه الصورة المشرقة رجال، فثمّة صورةٌ أخرى مؤلمة محزنة! لها أصحابٌ ورفاق كثيرون، بل هم أكثر المسلمين وللأسف الشديد، إنهم أولئك الذين ضيّعوا صلاةَ الفجر، وتهاونوا بها، وأخّروها عن وقتها، أو فرّطوا في أدائها جماعة مع المسلمين.. فياليت شعري ماذا فاتهم من الفضل وعظيم! وماذا تحملوا من الإثم وعظيم الوزر! قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾[الماعون: 4، 5]، قال السلف: ما تركوها بالكلية، ولكن أخّروها عن وقتها، وكذلك قال من قال من السلف في قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾[مريم: 59 - 60].

أيها المضيّع لصلاة الفجر خاصة! وصلاة الجماعة عامة..! أما لك همّة ترتفع بها لتحضى بتلك الفضائل التي سمعتَ بعضها في الخطبة الأولى؟ أوَ ترضى ـ أيها المضيع للفجر ـ أن تكون أذناك مبالًا للشيطان؟ فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ نَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ! قَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ - أَوْ قَالَ فِي أُذُنِهِ -"([12]).

أوَ ترضى لنفسك أن تتصف بصفة من صفات المنافقين؟! أم تراك تحب أن تصبح خبيثَ النفس كسلانا؟ أوَ ما تتذكر حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ـ في حديث الرؤيا الطويل ـ وفيه: "فأما الرجل الذي يُثلغ رأسه بالحجر ـ يعني يُكسَر ويُشج ـ فإنه يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة"([13])، قال أهل العلم: فحين تلذَّذ بالنوم عن الصلاة جوزي بأن يُرَض رأسُه بالحجارة، والجزاء من جنس العمل.

فيا هذا! الحقْ بأهل الفجر..الحق بركب الصالحين؛ لتكون في ذمة الله، ولتكتب في ديوان الأبرار، وتحصل لك السعادة والنور، وتُمحى من صحيفة النفاق.

حاسب نفسك، واصْدُق مع ربك، واستفتح يومَك بعبادةِ ربك،  واحذر من كل ما يسبّب لك فوات هذه الصلاة، وعلى رأس ذلك: السهر، وابذل من الأسباب ما يعينك على القيام للصلاة؛ كأخذ قسطٍ كاف من النوم، وتركيب المنبّه، وتوصية من يوقظك للصلاة ـ إن احتجت ـ فإذا أُوقظتَ فاذكر الله تعالى مباشرة، وانهض من فراشك بسرعة، ولا تتململ فيه، أو يوحي لك الشيطان أن تستريح قليلا، فهذا أحد مداخله..ثم ابتعد عن المعاصي والذنوب التي تُثقلُ الرأسَ والقلبَ قبل ذلك، لا سيما ذنوب النظر واللسان، فكم أفسدت من قلب! وكم أثقلت من فؤاد! فإن المعصية سببٌ لحرمان الطاعة، وكن ذا عزيمة قوية، وتذكّر ما أعده الله تعالى للمصلين الفجر جماعة، وتذكر ما أعدّه ربك جل وعلا لمن تعلقت قلوبهم بالمساجد، فإنهم أحد السبعة الذين يُظلهم الله في ظله.

فإن ضعف قلبُك عن استحضار هذا ـ واسمح لي على هذه المقارنة، لكن لأن بعض الناس عظُمت الدنيا في قلوبهم واهتموا بمستقبل الدنيا أكثر من مستقبل الآخرة ـ فاجعل صلاة الفجر كالوظيفة التي لو لم تحضرها لخصم عليك ثم فُصِلت، وقُطع سببٌ من أسباب رزقك.

اللهم إنا نسألك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام..أن تعيننا على ذكرك وشكرك، وعلى حسن عبادتك، اللهم اجعلنا من المحافظين على الصلاة، اللهم اجعلنا من الذين يقيمونها على الوجه الذي ترضاه عنا، اللهم اجعلنا وذرياتنا وأزواجنا ممن يقيم الصلاة يا رب العالمين.



([1]) ألقيت في 22/7/1437هـ . استفدت في هذه الخطبة من مطوية بعنوان: "يا أهل الفجر" للشيخ صالح الخضيري، بتصرف وزيادة.

([2]) مسلم ح(656).

([3]) مسلم ح(633).

([4]) البخاري ح(574)، مسلم ح(635).

([5]) مسلم ح(634).

([6]) مسلم ح(657).

([7]) البخاري ح(3269)، مسلم ح(776).

([8]) البخاري ح(555)، مسلم ح(632).

([9]) مسلم ح(669).

([10]) مسلم ح(251).

([11]) البخاري ح(657)، مسلم ح(651).

([12]) البخاري ح(3270)، مسلم ح(774).

([13]) البخاري ح(1143).

7413 زائر
1 | 0
المقال السابق
المقال التالى

هذا ولي الله


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات
عبد العزيز
بارك الله فيكم