جسد بين غرفتين

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2016-03-24 07:28:53

جسد بين غرفتين ([1])

إن الحمد لله...، أما بعد:

فإن مِن أبلغ المواعظ التي يسوقها اللهُ للعبد أن تتحدث عن نفسها لا بنفسها..ولسانُ حالها أبلغ من لسان مقالها..صمتها أقوى من منطقها..وعظُها الصامتُ أبلغ من عشرات المواعظ الناطقة!

لقد قُدِّرَ لي قبل أسبوعين أن أعايش جسداً انتقل بين غرفتين عجيبتين:

الغرفة الأولى: غرفة العناية المركزة، التي تُطلعك على مشهدٍ من مشاهد الضعف البشري والقدرةِ الإلهية.

هذه الغرفة التي يقف فيها الأطباءُ حائرين أمام كثيرٍ من الحالات التي أمامهم، حين يرون جسداً تدبّ فيه الروحُ ولكنهم لا يستطيعون فِعل شيءٍ يُذكر، وغايةُ ما يَقدِرون عليه المحافظةُ على كل ذرةِ صحةٍ بقيتْ فيه، ومراقبةُ الشاشات التي تُعطي مؤشراتٍ عن القلب والتنفُّس وبقيةِ الأعضاء!

حين تزورُ مريضًا في هذه الغرفة، وتتذكر قوّة بدنِه وحجتِه، وعنفوانَ شبابه، وسعيَه في الأرض، ثم تراه ممدّداً على هذا السرير، يفرحُ زوّرُاه أن يسمعوا منه كلمة، أو يَروا أيَّ إشارة تدل على حياةٍ مستقرة؛ حين يكون ذلك تتوارد عليك جملةٌ من الأسئلة..: أين ذهبت تلك القوى الحسيّة والمعنوية؟ أين قوّةُ حجّته؟ أين ذهبت القدرةُ على الكلام؟ أين العضلات المفتولة؟ أين صوته الجهوري؟ وحديثُه المتتابع؟!

عجباً لهذا المخلق حين يتكبّر! وعجبًا له حين يَطغى ويتجبّر حالَ صحَّته!

ليتَه يرى صورتَه ممددّاً على سرير المرض الذي لا يَقدِر فيه على شيءٍ سوى التنفّس أو إشارةٍ بالعين أو بالأصبع.

ليت شعري! ما الذي يجول في صدور نزلاء هذه الغرف من العِبَر والوصايا لزوارهم؟

أظنهم لو تكلّموا لقالوا لنا: يا معشر الأصحاء! لقد رأينا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغ"([2]).

ولو تكلّموا لوَعظوا كل واحدٍ منا بالحديث المشهور: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هرمك، وصحتَك قبل سقمك، وغناكَ قبل فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتَك قبل موتك"([3]).

ولو أنهم رأوا شخصًا من المتقاطعين مع أقاربهم أو أصدقائهم من أجل لعاعةٍ من الدنيا لقالوا: لقد عرفنا أن الدنيا كلَّها بأموالها ولذاتها لا تساوي هذا الفراش الذي نفترشه أو نلتحفه على هذا السرير! فكيف نجح الشيطانُ في التفريق بينكم؟

هذه الغرفة العجيبة تزهّدُ المغترّين بالمكاسب المحرّمة! ولو نطقتْ أسرّتها لقالت: هَبُوا أنكم تحايلتم على الربا، أو الرشوة أو السرقة من المال العام للدولة، أو حصلتم على مكسبٍ محرّم مِن أيّ طريق؛ أتنفعكم هذه المكاسبُ إذا وُضعتم على أسرَّتها؟ وهل ترونها فرصةً للتقرّب إلى الله بتلك المكاسب؟

وإلى الذين يشتكون صعوبةً في غضّ أبصارهم عن الحرام، وأسماعهم عن الحرام..بالله زوروا هذه الغرفة، لتنظروا إلى الحال التي يؤول إليها سمعُ الإنسان وبصرُه إذا أُدخل في هذه الغُرَف! ماذا لو لاحت لكم تلك الصورُ المحرّمة، والمسامعُ الآثمة وأنتم على أسرّة العناية المركّزة؛ أتراكم تُسمّرون أعيُنَكم؟ أو تُلقون أسماعكم لها، وتقولون: عجِزنا عن مجاهدةِ نفوسنا؟

وفي المقابل ـ يا عباد الله ـ: فإن زيارةِ هذه الغرفة تكشفُ لك عن أثرِ الصلة بالله حالَ الرخاء على أحوال بعضِ هؤلاء المرضى..فكم رأى الناسُ مِن آثارِ السَّكينة والطمأنينةِ على مرضىً يعانون ما يعانون من أمراضٍ خطيرة ومؤلمةٍ كالسرطان، وهذا مصداقُ قوله صلى الله عليه وسلم في وصيته لأمَّته، التي نقلها لنا الحبرُ ابن عباس رضي الله عنهما: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة..."الحديث([4])، وأي شدّة أعظم من هذه في حال الحياة سوى شدة الموت وسكرته؟

ومن آثار الرِّضى التي تلمحها في حال بعض أولئك المرضى: ما يقع مِن يُسر وسهولةٍ في نزع أرواحهم، فتُسَلُّ كما تُسَلُّ الشعرةُ من العجين! فمن كان له لبٌّ فليستعد لهذه اللحظات التي لا بد منها، سواء دخل "غرفة العناية المركّزة" أم لا!

أما الغرفة الثانية التي دخلتُها ـ أيها الإخوة ـ: فهي غرفةُ تغسيل الموتى!

تلك الغرفةُ التي تباعدك من الدنيا وتدنيك من الدار الآخرة، وتَعِظك بصمتها العجيب..بل كل ما فيها يعظ! أكفانها..أعواد الجنازة فيها..أدوات تجهيز الميّت..!

تتوارد على ذهنك أسئلةٌ كثيرة وأنت تقلّب طرفك في سقفها وجدرانها..: يا تُرى كم جلس على هذه الأعواد من ميّت؟ مَنْ آخرُ شخصِ غُسّل عليها؟ ومَنْ الميتُ القادم الذي ينتظر دورَه؟ أهو طفلٌ أم شابٌ أم كهلٌ أم شيخ كبير؟ أهو امرأة أم رجل؟ هل سيكون القادم شخصًا قد سبق موتَه مرضٌ ينبّهه ويُوقظه، ويجعل له فرصةً للمراجعة؟ أم هو شخصٌ مات فجأة دون مقدّمات؟ سبحان من يَعلم!

حين تغسّل هذا الميّت يلوح لك كمالٌ من كمالات الله؛ فتردِّد بلسانك وقلبك: سبحان الحيّ الذي لا يموت والجن والإنس يموتون!

وحين تغسّله، وتَنظر في عنايةِ الشرع المطهَّر بتنظيف الميّت، والعناية بتطهيره قبل دفنه، والتشديد على سَتر عورته، وتطييبه؛ تحمدُ الله على الهداية إلى هذه الشريعة المطَهَّرَة، التي تتفق مع الفطرة، وتُوجب العنايةَ بهذا الإنسانِ لا أقول منذ ولادته؛ بل قبل ولادته حتى يُوارَى في الثَّرى.

وحين تغسّل هذا الميت، تتذكر أنه كما قدِم إلى هذه الدنيا عاريًا، لا يستطيع لنفسه ضرًا ولا نفعًا؛ فهو كذلك حين يُغسّل مهما كانت قوتّه حالَ الحياة..يديره المغسّلون، ويقلّبونه ويحركونه، لكنه هذه المرة جسدٌ لا روح فيه، فأين المُعتبرون؟

ولئن كان هذا الميّتُ قدِم الدنيا عارياً فسيغادرها كذلك إلا من ثلاثة أثوابٍ أو خمسة، لا أكمام لها ولا أزرار، ولا سراويل ولا قُمص!

ولو أنّ تاجرًا من التجار أوصى أن تكون الثيابُ التي يكفَّن فيها من أغلى أنواع الأقمشة؛ لم ينفعه ذلك بشيء، فالقدوم على الله لا يَنفع معه إلا ما قاله الله: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيم﴾[الشعراء: 88، 89].

وحين تغسّلُ الميّت، فإنك تزداد يقينًا أن الموت هو الكأسُ التي لا بد من شربها، والبابُ الذي لا مناص من دخوله، فليت شعري كيف سيكون القدوم على الله منه؟ هل سنَقدُم عليه وقد رضي عنا أم لا؟ هل نَقدُم عليه خفيفةً ظهورُنا من الذنوب والآثام؟ أم سنَقدُم وقد تحمّلنا أوزاراً سنندم عليها لحظةَ خروجنا من قبورنا، يوم يقوم الناس لرب العالمين، ويوم يقال: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾[الأنعام: 94]!

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة....


 

الخطبة الثانية

الحمد لله...، أما بعد:

فمِن رحمة الله بعباده أن وهبهم نعمةَ السلوةِ والنسيان للمُصاب، لكن الذي لا يصحّ: أن ينقلب هذا النسيانُ إلى غفلةٍ تجعل الإنسانَ يعاوِد برنامجَ التقصير والغفلةِ عن المصير، بل العاقلُ يستفيد من هذه المواقف التي تمرّ به لتكون سبباً في إصلاح آخرته، وترقيعِ ما انفتق من ثياب الصلاحِ التي تخرّقت بذنوبٍ بينه وبين الله، أو بين عباده..

أيها الغافلون عن الموت..ألا ما أقربه!

أيها المتقاطعون من أجل دنيا..يوشك أن يَنكبّ أحدُكم على جنازةِ أخيه أو صديقه أو جاره ويقول: سامحني..سامحني..! فتصالحوا قبل تلك اللحظة!

أيها المؤمِّلون بلوغَ الستين والسبعين وقد بلغتموها..ها قد وصلتم، فماذا صنعتم؟

أيها الشباب المفرّطون وتؤمّلون الستين والسبعين: والله لقد صلينا يوم السبت الماضي على ثلاثة، ثلثاهم ما زالوا في بواكير أعمارهم وأوسطها..فاعتبروا يا أولي الألباب!

اللهم ارزقنا الاعتبار..وأعذنا من حال أهل الغفلة والضلال..وأسبغ الرحمةَ والرضوانَ على من سبقونا إلى الآخرة، واخلُفْهم في أهليهم وذرياتهم، وأحسن منقلبنا إليك، وتوفنا وأنت راض عنا.

اللهم عاف مبتلانا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.

 

 



([1]) ألقيت في 9/ 6 / 1437هـ.

([2]) البخاري ح(6412).

([3])  رواه النسائي في الكبرى ح(11832)، فيه إرسال.

([4]) رواه الترمذي ح(2516)، وأحمد ح(2803) واللفظ له.

4233 زائر
0 | 0
المقال السابق
المقال التالى

هذا ولي الله


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات