استخراج العبودية بالبلاء

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2016-03-24 07:19:46

استخراج العبودية بالبلاء ([1])

 

الحمد لله على ما قدّره وقضاه، القادرُ القاهرُ بما أمر به من أمره وأمضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ موقنٍ بما وعد به على الصبر من جزيل ثوابه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أعظمُ الخلق ابتلاء، وأقواهم صبراً على ما أصابه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الشرف والنجابة، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فأوصيكم ونفسي أيها المسلمون بتقوى الله تعالى؛ فهي سفينة النجاة، وحبل الهداة إلى دار السلام.

أيها المسلمون: لقد قدّر اللهُ أن تكون هذه الدارُ دارَ ابتلاءٍ ولم يجعلها دارَ صفاء، أيامُ الفرح فيها منغَّصة، وصفوها مشوب بكدَر، ورخاؤها لا يدوم..نعيمُها ابتلاء، وحياتها عناء..أهلُها منها على وجل؛ إما بنعمة زائلة، أَوْ بلية نازلة، أَوْ مَنيَّة قاضية، سمّاها الله في محكم التنزيل بالمتاع القليل.

وحال الناس فيها كما قال الأول:

فيومٌ علينا ويومٌ لنا ** ويومٌ نُسَاءُ ويومٌ نُسرّ

إذا عُلمَ هذا فإن العاقل إذا عَرف حقيقتها لم يغتر بها، وإذا عَلم أنها دار ابتلاء، تَلمَّس شيئاً من أسرار ذلك؛ ليزداد بهذا عبودية لله، وتعلّقاً بالدار الآخرة، ولتتوق نفسُه لدارٍ لا يزول نعيمُها، ولا يتنغّص عيشُها.

أيها المسلمون: إن المؤمن له مع الله عبوديةً في الضراء، كما له عبودية في السرّاء، وله عبودية في العُسر كما له عبودية في اليُسر، فينزل البلاءُ ليستخرج الله به أنواعاً من العبودية لم تكن لتخرج لولا البلاء، كما قال ابن الجوزي رحمه الله: "فلولا النازلة ما رُؤي بعضُ العبّاد على باب اللجأ،...فهذا من النِّعم في طَي البلاء، وإنما البلاءُ المحض ما يَشغلك عنه تعالى، فأما ما يقيمك بين يديه ففيه جمالك"([2])ا.هـ.

ومِن أسرار اسم الله اللطيف: أن الله تعالى مِن لطفه بعبده أن: "يبتليه ببعض المصائب، فيوفّقه للقيام بوظيفة الصبر فيها، فيُنيله درجاتٍ عالية لا يُدركها بعمَله، وقد يشدِّد عليه الابتلاء بذلك، كما فعل بأيوب عليه السلام، ويوجِد في قلبه حلاوةَ رَوحِ الرجاء، وتأميلَ الرحمة، وكشف الضر، فيَخِف ألمه، وتنشط نفسُه"([3]).

عباد الله: ألا وإن من أعظم ما يُسلّي المؤمن ـ وهو يعيش المصيبة أو ينتظرها ـ أن يوطّن نفسَه على أمورٍ إذا استحضرها هانَ عليه ما يلقى، ومن ذلك:

1 ـ أن يعلَم أن الابتلاء قاسمٌ مشترك بين الخلق، كما قال الأول:

وأعلم أني لم تُصبني مصيبةٌ *** من اللهِ إلا قد أصابت فتىً قبْلي

ولو سلِم منه أحدٌ لسلِم الأنبياءُ والمرسلون، ولكن الله تعالى ـ لحكمةٍ بالغة ـ ينوّع على عباده البلاء؛ فمنهم من يُبْتلى بالسراء، ومنهم من يُبتلى بالضراء.. منهم من يُبتلى بالفقر، ومنهم من يُبتلى بالمرض، وآخرون بفقد الأحبة، وغيرهم بالسجن أو القتل.

فالله تعالى ـ كما يقول ابن القيم رحمه الله ـ "يربّي عبدَه على السراء والضراء، والنعمة والبلاء؛ فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال، فإن العبد على الحقيقة مَن قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عَبْدُ السَّراء والعافية؛ الذي يعبد الله على حرفٍ، فإن أصابه خيرٌ اطمأن به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه؛ فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته، فلا ريبَ أن الإيمان الذي يَثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمانُ النافع وقت الحاجة، وأما إيمانُ العافية فلا يكاد يصحب العبدَ ويبلّغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمانٌ يثبت على البلاءِ والعافية"([4]).

ولا حل غير الصبر واليقين، فالجزع لا يُحيي ميتاً، ولا يَشفي مريضاً، ولا يُصلِح فاسداً: «ومَن يَصبِر يصبّره الله»([5]).

2 ـ أن تتذكر كم صرف ربُك عنك مِن النِّقم والبلاء، وأن ما أصابك ليس بشيء بالنسبة لما صُرف عنك، قال الحسن البصري رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾[العاديات: 6] قال: "يُعدّد المصائب، ويَنسى النعم"!([6])

وتأمل في ذلك العلاج النبوي الذي له أثره البالغ لمن استعمله؛ ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم"([7])، "فإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحَظ الجليل؛ رآه يفوق جمعاً كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه، مهما بلغت به الحال؛ فيزول قلقُه وهمُّه وغمُّه، ويزداد سرورُه واغتباطُه بنعم الله التي فاق فيها غيرَه ممن هو دونه فيها، وكلما طال تأمّل العبدِ بنعم الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية؛ رأى ربَّه قد أعطاه خيراً ودفع عنه شروراً متعددة، ولا شك أن هذا يدفع الهمومَ والغموم، ويوجِب الفرحَ والسرور"([8]).

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة خير أنبيائه..بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة


الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

3 ـ فمن أعظم ما يسلّي المبتَلى: أن البلاء له أمدٌ ينتهي إليه، ووقتٌ يَنقضي عنده، وما عُرِفَ أن بلّيةً استحكمت استحكاماً تاماً لا فرج معه!

ابتلي يعقوبُ عليه السلام عشرات السنين، ثم جاءه الفرج.. ومرض أيوب عليه السلام سنوات طويلة، حتى استنكره أقربُ الناس له! ثم جاءه الفرج.. وفي الواقع شواهد كثيرة.

4 ـ استعن بالدواء القرآني: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[البقرة: 153] من هم الصابرون الذين بشّرهم ربهم؟ ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[البقرة: 156] فتأمل كيف جمعت هذه الآيات ثلاثة أنواع من العلاج: علاج نفسي: وهو التصبر، وعلاج قولي: وهو الاسترجاع، وعلاج بدني وقلبي: وهو الصلاة!

ومع وضوح هذا العلاج الرباني؛ إلا أن من الناس مَن يقصّر في تعاطيها عند نزول البلاء، وهي أدوية ربانية، واللهِ ما لجأ لها عبدٌ - موقناً بها - إلا وسكب اللهُ في قلبه من اليقين والرضا ما لا يخطر له على بال، مع استحضار ما سبق ذِكره من علاجات.

ولله درّ علقمة بن قيس رحمه الله حين قال في تفسير قوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[التغابن:11] قال: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلّم"([9]).

ورحم الله ابن الجوزي يوم قال: "مَن عاش مع الله طيّبَ النفسِ في زمنِ السلامة؛ خفّ عليه زمنُ البلاء، فهناك المحك...والعاقل من أعدّ ذخرًا، وحصّل زادًا، وازدادَ من العُدد للقاء حربِ البلاء، ولا بد من لقاء البلاء، ولو لم يكن إلا صرعةُ الموت..فنسأل الله - عز وجل - يقينًا يقينا شرَّ ذلك اليوم؛ لعلنا نصبر للقضاء أو نرضى به، ونرغبُ إلى مالك الأمور أن يهب لنا من فواضل نِعَمه على أحبابه، حتى يكون لقاؤه أحب إلينا من بقائنا، وتفويضنا إلى تقديره أشهى لنا من اختيارنا، ونعوذ بالله من اعتقاد الكمال لتدبيرنا"([10])ا.ه.

اللهم إنا نسألك العافية في الدين والدنيا والآخرة.. اللهم إنا نسألك يا مَن يَفرح بسؤال عباده، ويا من لا يُبْرِمُه إلحاح الملحين.. أن تجعل لنا في ساعتنا هذه ولجميع إخواننا المكروبين فرجاً ومخرجاً من حيث لا يحتسبون..

اللهم إن لنا إخواناً هنا وهناك ـ وأنت أعلم ـ يُصبحون في ابتلاء، ويمسون في ابتلاء، اللهم إنا نسألك يا أرحم الراحمين ـ في هذه الساعة المباركة ـ أن تكشف ضرهم، وأن تفرج كربهم، وأن تنفّس غمهم.

اللهم ارفع بالابتلاء درجاتهم، وارزقهم الصبر والاحتساب، واملأ قلوبهم رضاً بك، ورضاً عنك، وأخرجهم من هذه الدنيا سالمةً أديانهم، رفيعةً درجاتهم.

اللهم إنا نعوذ بك من عافية تجعلنا نكفر نعمَتَك، أو تُنسينا حسنَ بلائك. اللهم اجعلنا شاكرين لك، ذاكرين لك، راهبين لك، إليك مخبتين منيبين.



([1]) ألقيت في 2/6/1437هـ.

([2]) صيد الخاطر: (132) طبعة ابن خزيمة، بتصرف.

([3]) تفسير الأسماء الحسنى للسعدي: (74).

([4]) طريق الهجرتين لابن القيم (ص: 277).

([5]) الحديث في صحيح مسلم ح(1053)، وقد روى ابن أبي الدنيا في القناعة والعفاف: (69)، عن الأحنف بن قيس يقول: "اللهم هب لي يقينا يهون علي مصائب الدنيا".

([6]) الشكر لابن أبي الدنيا (ص: 25).

([7]) صحيح مسلم ح(2963).

([8]) الوسائل المفيدة للحياة السعيدة (7) بتصرف.

([9]) تفسير الطبري (23/ 12).

([10]) صيد الخاطر (153).

6817 زائر
1 | 0
المقال السابق
المقال التالى

هذا ولي الله


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات