الإيجابية في نصرة الدين

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2016-03-28 14:23:55

الإيجابية في نصرة الدين ([1])

إن الحمد لله...، أما بعد:

فإن الله تعالى لما بعث نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بهذا الدين؛ كان الرجل إذا أسلم شَعَر بسمؤوليته تجاه دينه الجديد الذي هداه الله له؛ فتجده مباشرةً يَطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون رسولَه إلى قومه، أو يسأله: كيف يدعو قومَه؟ في سلسلة من الأسئلة التي تُنبئ عن حَملٍ لهمّ هذا الدين، والرغبة في الإسهام بنشر رسالته، والدعوة إليه بحسب الوُسع والطاقة..حتى المتلبّس بمعصيةٍ من المعاصي لم يكن يمنعه ذلك من حمْلِ هذه المسؤولية، ومِن أجلّ الشواهد التي توضّح هذا المعنى: ما ورد في قصة أبي محجن الثقفي رضي الله عنه، وكان رجلاً شجاعًا مِقدَاماً، لكنه ابتُلي بشرب الخمر، فلما دعا داعي الجهاد إلى معركة القادسية؛ كان أبو محجن فيمن خرج مع المجاهدين، فوقع في تلك الخطيئة، فأُتي القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بأبي محجن فأمر به في القيد, وكان بسعدٍ جراحة, فلم يخرج يومئذٍ إلى الناس، قال: فصعدوا به فوق مكانٍ مرتفع لينظر إلى الناس ويُتابع سيرَ المعركة, فلما التقى الناس، ورأى أبو محجن فلولَ المجاهدين تتسابق إلى الجنة، وتتطاير الرؤوسُ لإسقاط عرش كسرى؛ قال أبو محجن :

كفى حزنًا أن تُطعن الخيل بالقنا *** وأُترك مشدودًا عليّ وثاقيا

فقال أبو محجن لسلمى زوجة سعد: أطلقيني، ولكِ عليّ إن سلّمني اللهُ أن أرجع حتى أضع رِجلي في القَيْد, وإن قُتِلت استرحتم, قال: فحلّته حين التقى الناس, قال: فوثب على فرسٍ لسعد يقال لها: البلقاء, ثم أخذ رمحاً ثم خرج, فجعل لا يحمل على ناحيةً من العدو إلا هزمهم, فجعل الناسُ يقولون: هذا مَلَكٌ! لما يرونه يَصنع, قال الراوي: وجعل سعدٌ يقول: العَدْوُ عدْوُ البلقاء، والطعنُ طعنُ أبي محجن, وأبو محجن في القَيد! فلما انتهت المعركة، ووَضَعت الحربُ أوزارها رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القَيْد, فأخبرت سلمى زوجَها سعدا بالذي كان مِن أمره! فقال سعد: والله لا أضربُ اليوم رجلا أبلى اللهُ المسلمين على يديه ما أبلاهم, قال: فخلى سبيله, فقال أبو محجن: قد كنتُ أشربها حيث كان يُقام عليّ الحدّ فأُطهّر منها, فأما إذا بهرجتني فلا والله لا أشربها أبداً!

إنه نموذجٌ معبّر، يقول لكل واحدٍ منا: مهما كنتَ مقصّرا، فإياك أن تَظن أن هذا التقصير يَحوْل بينك وبين الدعوة إلى دينك بأيِّ وسيلةٍ ممكنة، مهما كانت هذه الوسيلةُ حقيرةً أو عادية في نظرك..ومهما كانت وظيفتك - طبيب .. مهندس .. تاجر .. بنّاء .. فلاح .. رجلَ أمن .. فضلا عن كونك معلما.

أيها الأحبّة: ولا يزال الخيرُ في هذه الأمّة..ممن يحملون همومَها، وإن كانوا يصنَّفون من عامة الناس؛ فهذا رجلٌ من أهل العراق، وليس من العرب، لكنه مسلمٌ حيُّ القلب، حملَ الهمّ، فبحث عن وسيلةٍ يُترجِم بها همّه..فصار يتصل ببرامج الفتوى الشهيرة التي تُبثّ في عددٍ من القنوات في بلادنا المباركة، فسأله المذيع ـ الذي يُقدّم أحدَ برامج الفتوى الأسبوعية الشهيرة التي تُبَث من السعودية ـ: ما سرّ قدرتك على الوصول إلى البرنامج في كل حلْقَة؟ فقال ـ بعبارات مختلطة بالعبرات ـ: "هذا من فضل الله، ومِن نيتي أن أخدم أمةَ سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم..أن أخدم هذه الأمة..والله إنني فقير ومحتاجٌ لمالِ هذه المكالمات، ولكن حبي لله، وحبي للرسول صلى الله عليه وسلم، وحبي لأمة محمد..وأنا لستُ عربياً، ولكني أحب قومَ نبيي صلى الله عليه وسلم، وإنني أغار على هذه الأمة، وإنني أغار على الأقوام الذين يموتون في سوريا..في فلسطين..في العراق..في أفغانستان..في بورما..والله أغار على حبيبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأقول: يا رب..يا رب! لو مُتُّ بهذا العمل نجّني من النار، بهذا العمل نجّني من النار".

ختم هذا الأخ مكالمتَه والعبراتُ تخنقه، وهو يردد: "يا رب.. يا رب! لو مُتُّ.. بهذا العمل نجّني من النار، بهذا العمل نجّني من النار"! الله أكبر! أيّ قلب حملَه هذا الرجل العاميُّ المُقْعد؟!

لقد سمعتُ المقطع الذي حمل هذه الكلمات الرائعة مرارًا، وهو وإن كان لا يجاوز دقيقة في حساب الزمن، إلا أنه حملَ جملةً من المشاعر هي أكبر من عمرها الزمني.

وقصةُ أبي محجن، وقصة هذا المتّصل، وبينهما آلالاف القصص؛ لهما دلالاتٌ وعِبَر، سنشير إلى شيء منها في الخطبة الثانية إن شاء الله.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة....


 

الخطبة الثانية

الحمد لله...، أما بعد:

ففيما سبق من القصص، دلالاتٌ مهمّة، ورسائل شريفة، علينا أن نتلقاها ونَعيَها، وأن نتأمل فيها، ومن تلكم الدلالات:

أولها: أن اللهَ يَغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته، وربما خَفِيَ علينا منهم العددُ الكبير، وقد يُكرمنا اللهُ بسماع أخبارهم، أو اللقاء بهم، لتنشطَ نفوسٌ ملّت، وهممٌ قد كلّت؛ لتُواصل السير في طريق الدعوة الطويل، وتَصبر على ذلك حتى تذوق طعمَ الراحة إذا وَضعت أقدامها على أول عتبات الجنّة.

ثانيها: أن مَن امتلأ قلبُه رغبةً في خدمة الدين؛ فلن تُعييه الحيَل للبحث عن وسيلة، لا يثنيه عن ذلك شهادةٌ ولا شهرة، ولا مؤهّل ولا منصب من المناصب، فأبو محجن هو من علمتم.

وصاحبنا الذي كان ولا زال يتصل على برامج الفتوى رجلٌ مقعَدٌ، عاميٌّ، ليس بعربي، لم يجد وسيلةً يعبّر بها عن حبّه الطاهر لإخوانه المسلمين، ولا عن حبّه العظيم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمّته إلا توفير بعض قيمة ما يحتاجه من طعامه ـ وليس شيئًا زائدا ـ ليصرف ذلك في قيمةِ مكالمةٍ يجمع فيها بعض أسئلة جماعته وأهل حيّه؛ ليكون سبباً في تفقيههم في الدين، ودلالتهم على الطريق الصحيح.

فأين من لديه فائضٌ من مالٍ أو فضلُ علمٍ مِن ميادين نفع الأمة؟!

ثالث هذه الدلالات: أن من شعر بأن عليه مسؤولية وإن صغرتْ؛ سيجعله يشعر باللوم لنفسه على تقصيرها، وسيبقى يتذكر هذه الرسالة: أن المسلم مهما كانت حاله، فينبغي عليه أن يسعى في المشاركة بكل ما يستطيعه من إصلاح، ورأبٍ للصدع، وتأليفٍ للقلوب، ولو بكلمةٍ طيبة، أو دعواتٍ صادقة لإخوانه، خاصةَ المكلومين منهم.

إننا نملك في المجتمع الإسلامي ملايين الطاقات، ومئات الملايين من البشر، فلو أن كلّ واحدٍ سعى بمبادرةٍ واحدةٍ - وإن قلّت - لنِفْعِ مَن حوله من إخوانه المسلمين؛ لكانت أحوال المسلمين غير ما هم عليه.

إن قصة أبي محجن، وقصة صاحبنا المتصل تقول ـ وبوضوح ـ: إن الاعتذار عن نفع المجتمع بسبب قلّة العلم الشرعي، أو ضعف القدرة الخطابية، أو قلّة المال؛ غير مقبول، فمن حمَلَ الهمّ، بحث عن أكثر من طريقة.

وختاماً.. فيا كلّ مسلم قصّر في خدمة دينه وأمّته ومجتمعه! إن عجزت عن كلّ ما سبق؛ فتذكر سؤالَ أبي ذر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فأجابه النبي  صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا رسول الله! أرأيتَ إن ضعفتُ عن بعض العمل؟ قال: «تكفّ شرَّك عن الناس؛ فإنها صدقة منك على نفسك»([2])، فمن لم ينصر دينَه، ويسعى بنشر الخير في الأمة؛ فليكف شرّه عن الناس، فإن هذا سيخفف الشرّ، ويوسّع مساحة الخير في الأمة.

إن قصة أبي محجن وقصة الرجل العراقي المعاصر تقول: إن هِمم الكبار لا يُشترط لها شيءٌ سوى قلبٍ يخفق بحب هذا الدين، والحدَب عليه وعلى أهله، والرغبةِ في تقديم شيء، على قاعدة: "لا تحقرن من المعروف شيئا"([3])، وقاعدة: "يا نساء المسلمات! لا تَحقرن جارة لجارتها، ولو فِرسِنَ شاة"([4]).

اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا من أنصار دينك، وحملة شريعتك، وأعذنا يا مولانا أن نكون سبباً في فتنة الناس عن دينك بسوء أخلاقنا وأفعالنا.



([1]) ألقيت في 24/5/1437هـ.

([2]) مسلم ح(136).

([3]) مسلم ح(2626).

([4]) البخاري ح(2566)، مسلم ح(1030).

  • الكلمات الدالة
4243 زائر
1 | 0
المقال السابق
المقال التالى

هذا ولي الله


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات