لله درك يا نزار !

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2016-02-29 14:12:30

لله درك يا نزار !

سأله المذيع ـ الذي يقدّم أحد برامج الفتوى الأسبوعية الشهيرة التي تُبَث من السعودية ـ: ما سرّ قدرتك على الوصول إلى البرنامج في كل حلقة؟ فقال ـ بعبارات مختلطة بالعَبَرات ـ: "هذا مِن فضل الله، ولنيتي أن أخدم أمة سيد المرسلين صلى الله عليه  وسلم.. أن أخدم هذه الأمة.. والله إنني فقير ومحتاجٌ لمالِ هذه المكالمات، ولكن حبي لله، وحبي للرسول صلى الله عليه وسلم، وحبي لأمة محمد.. وأنا لستُ عربياً، ولكني أحب قوم نبيي صلى الله عليه وسلم، وإنني أغار على هذه الأمة، وإنني أغار على الأقوام الذين يموتون في سوريا.. في فلسطين.. في العراق.. في أفغانستان.. في بورما.. والله أغار على حبيبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأقول: يا رب.. يا رب! لو مُتُّ.. بهذا العمل نجّني من النار، بهذا العمل نجّني من النار".

ختم أخونا نزار مكالمته والعبرات تخنقه، وهو يردد: "يا رب.. يا رب! لو مُتُّ.. بهذا العمل نجّني من النار، بهذا العمل نجّني من النار"! الله أكبر! أيّ قلب هذا الذي حمله نزار؟ ذلك الرجلُ العاميُّ المُقْعد..

لقد سمعتُ المقطع الذي حمل هذه الكلمات الرائعة مرارا، وهو وإن كان لا يجاوز دقيقةً في حساب الزمن؛ إلا أنه حملَ جملةً من المشاعر هي أكبر من عمرها الزمني، لعلي أشير إلى أبرزها:

أولها: أن الله يغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته، وربما خفي علينا منهم العدد الكبير، وقد يُكرمنا الله بسماع أخبارهم، أو اللقاء بهم، لتنشطَ نفوسٌ ملّت، وهممٌ قد كلّت؛ لتواصِل السير في طريق الدعوة الطويل، وتصبر على ذلك حتى تذوق طعمَ الراحة إذا وَضعتْ أقدامها على أول عتباتِ الجنّة.

ثانيها: أن مَن امتلأ قلبُه رغبةً في خدمة الدين؛ فلن تُعيِيَه الحيل للبحث عن وسيلة، لا يثنيه عن ذلك شهادةٌ ولا مؤهّل، ولا منصبٌ من المناصب، فهذا رجلٌ مقعدٌ، عاميٌّ، ليس بعربي، لم يجد وسيلةً يعبّر بها عن حبّه الطاهر لإخوانه المسلمين، ولا عن حبّه العظيم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمّته إلا توفير بعض قيمة ما يحتاجه من طعامه ـ وليس شيئا زائدا ـ ليَصرفه في قيمة مكالمةٍ يجمع فيها بعضَ أسئلة جماعته وأهل حيّه؛ ليكون سبباً في تفقيههم في الدين، ودلالتهم على الطريق الصحيح.

ثالثها: هذا الهمُّ الذي أقامه وأقعده لحال إخوانه المسلمين، وجعله يسعى للبحث عن وسيلةٍ يخفّف بها التَّبِعة التي شعر بأنها ملقاة على عاتقه، وأن المسلم مهما كانت حاله؛ فإنه ينبغي عليه أن يسعى في المشاركة بكل ما يستطيعه من إصلاح، ورأْبٍ للصَّدع، وتأليفٍ للقلوب، ولو بكلمة طيبة، أو دعواتٍ صادقة لإخوانه، خاصةًَ المكلومين منهم.

إننا نملك في المجتمع الإسلامي ملايين الطاقات، ومئات الملايين من البشر، فلو أن كلّ واحدٍ منهم سعى بمبادرةٍ واحدة - وإن قلّت - لنِفْعِ مَن حوله من إخوانه المسلمين؛ لكانت أحوالُ المسلمين غير ما هُمْ عليه.

إن قصةَ أخينا نزار، تقول ـ وبوضوح ـ: إن الاعتذار عن نفعِ المجتمع بعدم تحصيل العلم الشرعي، أو ضعف القدرة الخطابية، أو قلة المال؛ غير مقبول! فمن حمَلَ الهمّ؛ بحث عن أكثر من طريقة، ومن لم يفعل هذا، فليتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما سأله أبو ذر: قلت: يا رسول الله، أيّ الأعمال أفضل؟ فأجابه، ثم قال: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إن ضعفتُ عن بعض العمل؟ قال: «تَكفّ شرّك عن الناس؛ فإنها صدَقة منك على نفسك»([1]).

إن قصة نزار تقول: إن هِممَ الكبار لا يُشترط لها شيءٌ سوى قلبٍ يخفق بحب هذا الدين، والحدب عليه وعلى أهله، والرغبةِ في تقديم شيء، على قاعدة: "لا تحقرنّ من المعروف شيئًا"([2])، وقاعدة: "يا نساء المسلمات! لا تَحقِرنّ جارةٌ لجارتها، ولو فِرسَن شاة"([3]).

 



([1]) مسلم ح(136).

([2]) مسلم ح(2626).

([3]) البخاري ح(2566)، مسلم ح(1030).

  • الكلمات الدالة
16492 زائر
0 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات