إلى أحبتي مدرسي الحلقات (ج 3)

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2016-01-19 06:57:48

إلى أحبتي مدرسي الحلقات (ج 3)([1])

استوقفتني كثيرا في ترجمة الشيخ المقرئ طفيل بن محمد بن عبد الرحمن الإشبيلي؛ مقولة الأبّار فيه حيث يقول: "كان مجوداً ضابطاً عارفاً، أدَّب بالقرآن، وطال عمره،وأخذ عنه الآباء والأبناء"([2])، فتأمل قوله: "أدّب بالقرآن".. الله أكبر! كم نحن بحاجة إلى هذا النوع من المعلّمين الذين يؤدّبون بالقرآن، بعد أن تأدَّبوا به وبأخلاقه، وصار القرآنُ يصوغ حياتهم وسلوكَهم وتصرفاتهم، فاختصروا بذلك مسافات طويلة على المتلقي عنهم، والسامع لتوجيهاتهم، وكأن صفتَه صلى الله عليه وسلم "كان خُلُقه القرآن"([3]) ماثلةً أمام أعينهم، يرقبون الله في أنفسٍ طاهرةٍ أجلسها الله بين يديها لتتلقى عنها القرآن.

وإن من أهمّ المعاني التي ينبغي استصحابها في مسيرك هذا؛ أنك في وظيفتك هذه تخدم دينَك، وتتشرف بوسام النبوة الشريف: "خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه"([4])، ولستَ في مجرد وظيفية مادية، بل أنت في هذا متلبسٌ بالنصيحة لكتاب الله التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث تميم الداري المشهور: "الدين النصيحة.. ولكتابه"([5]).

وحُبّك لطالبك ما تحبّه لنفسك؛ هو من صميم مبادئك التي تنطلق منها في تعليمك له، ولأَن كان هذا حقاً لكل مسلمٍ؛ فهو مع تلميذك أولى، يعينك على ذلك أن تتذكر يوم أن كنتَ طالباً بين يدي شيخك وأستاذك قبل سنوات، مستشعراً قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾[النساء: 94]، ومتذكراً قولَ نبيك صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِه"([6]).

اجتَهِد ما استطعت - أخي مدرس القرآن- أن تضع بصمةً في كل طالبٍ أكرمَك الله بالجلوس بين يديك؛ يتذكرها لك في كبَرِه، ويدعو لك بسببها، وهذه البصمة تتنوع، فقد تكون نصيحة فردية ـ عند الحاجة لها دون إملال ـ وقد تكون هديةً، وقد تكون البصمةُ كلمةً تشجيعية يسمعها منك مباشرةً، أو ترفع بها صوتك ليسمعها زملاؤه، أو تُرْسِلُ لوالده ـ أو وليّ أمره ـ رسالةً تخبره فيها بجانبٍ من جوانب التميز لتلميذك، تفعلُ ذلك وأنت تتذكر قوله صلى الله عليه وسلم عن ابن عمر: «نِعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل»([7])، وقوله صلى الله عليه وسلم  في غزوةٍ من الغزوات: «كان خيرُ فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجّالتنا سلمة»([8])، وغيرها كثير، ولا يخفى على لبيبٍ مثلَك أهميةَ الاعتدال في هذا المدح والتشجيع، فإنه إذا زاد عن حدّه فقَدَ الفائدة التربوية منه، بل ربما انعكس المقصود منه.

وأحاذرك ـ أيها اللبيب ـ أشدَّ الحذر من جرحِ مشاعرِ تلميذك، خاصة أمام زملائه، أو وليّ أمره؛ فإن هذا له أثره الذي قد يبقى زماناً طويلاً، وربما كانت سبباً في تركه الحلْقة، والشواهد على ذلك كثيرة، وقد قيل قديما:

وقد يرجى لجرحِ السيفِ برءٌ ** ولا برءٌ لما جرحَ اللسانُ


 

وللحديث صلةٌ إن شاء الله.



([1])  أشرتُ في المقال السابق (ج2) إلى أهمية زاد الصبر لمن سلك هذا الطريق، وأكمل في هذا الجزء بعض المعالم التي أراها مهمةً لمعلّم أشرف كلام في الوجود.

([2]) معرفة القراء الكبار ص578.

([3]) رواه مسلم ح(746).

([4]) البخاري ح(5027).

([5]) مسلم ح(55).

([6]) البخاري ح(13)، مسلم ح(45).

([7]) البخاري ح(1122)، مسلم ح(2479).

([8]) مسلم ح(1807).

  • الكلمات الدالة
6645 زائر
0 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات