تلبيس مردود في جريدة " الحياة "

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2016-01-15 22:23:12

تلبيس مردود في جريدة "الحياة"

الحمد لله رب العالمين ، وبعد:
فقد اطلعت في عدد جريدة "الحياة" ـ الصادر الجمعة 14/2/1431هـ الموافق 29 يناير 2010 ـ على الموضوع الذي نشره الصحفي أحمد المسيند بعنوان: "ابن عثيمين يحسم جدلاً بعد موته ... حول (فاتنات الأخبار)"!

وقد عجبتُ من جرأة الأخ ـ هداه الله ـ على طرح الموضوع بهذه الطريقة المجتزأة، والتي يكفي عنوانها لبيان ما فيها من مجانبة الصواب في هذه المسألة، لذا أرجو أن تتسع مساحة جريدتكم لنشر تعقيبي هذا.

ولكي يكون القارئ الكريم على اطلاع على خلاصة ما تضمنه الموضوع الذي نشره الكاتب، فأقول: إن الأخ أحمد نشر ـ في العدد المشار إليه ـ فتوى لشيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ حول النظر إلى الصور في المجلات، والتفريق بين الصورة وبين الرؤية المباشرة، وأنه لم يجزم بتحريم ما كان بواسطة الشاشة أو الصورة الثابتة.

ولي على هذا التحقيق ملاحظتان أرجو أن يتسع صدر الأخ أحمد لها.
الملاحظة الأولى:
كم تمنيت أن يكون الصحفي أكثر إنصافاً وأمانةً، بحيث ينقل جميع ما حفظ عن شيخنا من فتاوى في هذه المسألة، لا أن ينقل شيئاً ويترك شيئاً آخر.
ولا أدري هل الصحفي نقل الفتوى من كتاب شيخنا مباشرة أم نقلت له؟!
فإن كانت الثانيةفما هكذا الأمانة التي يمليها عمله كصحفي أو باحث عن معلومة، فالواجب عليه أن يتثبت بنفسه من المصدر، فهذه فتاوى تُنقل عن أعلام كبار لهم وزنهم وقدرهم، والأمة تثق بهم وبعلمهم وما ينقل عنهم.
وإن كانت الأولى فلماذا نشط لنقل تلك الفتويين، ولم ينشط لنقل الفتوى الثالثة التي بعدهما مباشرة في الكتاب، وفي نفس المجلد الذي نقل أو نقلت له الفتوى منهما؟! وهي بالمناسبة أقل حروفاً من سابقتيها! أم لأنها تنقض عليه ما نقله في الفتويين اللتين نقلهما؟!
ثم كيف يتجرأ الصحفي ـ هداه الله ـ ويقول: ابن عثيمين يحسم جدلاً، وهو في فتواه تلك يقول: «إن كانت امرأة معينة ونظر إليها نظر تلذذ وشهوة فهذا حرام، لأن نفسه حينئذ تتعلق بها وتتبعها وربما يحصل بذلك شر وفتنة، فإن لم ينظر إليها نظرة تلذذ وشهوة وإنما هي نظرة عابرة لم تحرك له ساكناً، ولم توجب له تأملاً فتحريم هذا النظر فيه نظر».
فهذه عبارته بنصها: "فتحريم هذا النظر فيه نظر" فكيف يحسم جدلاً؟ أين الحسم في هذه العبارة؟ ثم متى كانت الفتوى ـ في أمرٍ اجتهادي ـ تحسم جدلاً؟! فالاجتهاد لا يرفع الاجتهاد، وإنما يلغى الاجتهاد إذا كان في مقابل النص، أو الإجماع الصحيح.
ومن باب النصح لشيخنا وللأخ الناقل للفتوى فإنني أذكّره ـ والإخوة القراء ـ بهذه الفتوى التي غَفَل أو تغافل عنها الصحفي!

وهذا نصها من مجموع فتاواه (12/328):
وسئل فضيلة الشيخ: عن تهاون كثير من الناس في النظر إلى صور النساء الأجنبيات بحجة أنها صورة لا حقيقة لها؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله : هذا تهاون خطير جداً وذلك أن الإنسان إذا نظر للمرأة سواء كان ذلك بواسطة وسائل الإعلام المرئية، أو بواسطة الصحف أو غير ذلك، فإنه لا بد أن يكون من ذلك فتنة على قلب الرجل تجره إلى أن يتعمد النظر إلى المرأة مباشرة، وهذا شيء مشاهد، ولقد بلغنا أن من الشباب من يقتني صور النساء الجميلات ليتلذذ بالنظر إليهن، أو يتمتع بالنظر إليهن، وهذا يدل على عظم الفتنة في مشاهدة هذه الصور، فلا يجوز للإنسان أن يشاهد هذه الصور، سواء كانت في مجلات أو في صحف أو غير ذلك، إن كان يرى من نفسه التلذذ والتمتع بالنظر إليهن؛ لأن ذلك فتنة تضره في دينه، وفي اتجاهاته، ويتعلق قلبه بالنظر إلى النساء فيبقى ينظر إليهن مباشرة.

الملاحظة الثانية:
أنا لا أريد ههنا أن أناقش مضمون الفتوى من الناحية الشرعية بالتفصيل، ففي مداخلة د.الفنيسان ـ التي ذكرها الأخ أحمد ـ إشارة إلى العلة المؤثرة في هذه المسألة، وهي خوف الفتنة!
وفي جواب شيخنا في الفتوى التي ذكرتها ههنا جواب محكمٌ عن الإشكال الموجود في الفتويين اللتين نشط الصحفي لنشرهما، ولم ينشط لنشر هذه الفتوى التي تنقض أو توضح على الأقل ما أورده في الفتويين، والتي توهم القارئ أن هذا هو القول الوحيد لشيخنا في هذه المسألة.

وهنا سؤال: إذا كان للشيخ ـ رحمه الله ـ أو لغيره من أئمة الإسلام المشهورين بالفتوى جوابان، أحدهما يوافق المعروف من فتاواه، والملائم لأصوله ،والآخر ليس كذلك، فما الواجب هنا؟
الواجب ـ بلا تردد ـ أن يُرَدَّ الجواب المحكم الواضح الذي يليق بفقهه وأصوله في الفتوى، وقواعده في هذا الباب إلى ما كان مُشْكِلاً.
والمرجع في فتاوى أي عالمٍ أو إمامٍ ، صنفان من الناس: طلابه، أو من قرأوا كتبه وأدمنوا النظر في فتاواه وشروحه، وهذا ما لا يتوفر للصحفي سامحه الله.
وبما أنني قد منّ الله علي بالتتلمذ لشيخنا ابن عثيمين والاتصال به أكثر من 10 سنوات ـ ولله الحمد والفضل ـ فإنني أجزم و لا أتردد أن الأليق بفقه شيخنا ـ رحمه الله ـ وأصوله في الفتوى، وخاصة بعد هذا الانفتاح الإعلامي الواسع (حساً ومعنى) ، وبعد هذا الظهور الفاتن لمقدمات نشرات الأخبار في أكثر القنوات، هو القول بالمنع مطلقاً، وأجزم أنه لو رأى ما عليه واقع الفضائيات الآن لم يفتِ قطُّ بجواز ذلك، وفتواه التي ذكرتها آنفاً فيها تعليل لا يمكن نقضه؛ فتأمل قوله: (وذلك أن الإنسان إذا نظر للمرأة سواء كان ذلك بواسطة وسائل الإعلام المرئية ، أو بواسطة الصحف أو غير ذلك ، فإنه لا بد أن يكون من ذلك فتنة على قلب الرجل تجره إلى أن يتعمد النظر إلى المرأة مباشرة، وهذا شيء مشاهد).
والسؤال: من هو الذي يضمن لقلبه أن لا يتأثر؟
والعلة ـ كما يقول الفقهاء ـ إذا كانت غير منضبطة أنيطت بالأغلب، وما هو الأعم والأغلب يا معشر الرجال؟ أهو التبلد وعدم التأثر برؤية المرأة أم التأثر؟! الفطرة السليمة تجيب.
وأزيد الأخ الصحفي ومن وافقه ـ هدى الله الجميع للحق ـ أن شيخنا ـ رحمه الله ـ سئل هذا السؤال ـ كما في مجموع فتاواه (12/226) ـ: عن مجلات الأزياء وتفصيل الملابس على ما فيها؟ فأجاب بقوله :
(
أطلعت على كثير من المجلات التي تشير إلها السائلة فألفيتها مجلات خليعة فظيعة خبيثة ، حقيق بنا ونحن في المملكة العربية السعودية ، الدولة التي لا نعلم - ولله الحمد - دولة تماثلها في الحفاظ على شرع الله وعلى الأخلاق الفاضلة ، حقيق بنا أن لا توجد مثل هذه المجلات في أسواقنا وفي محلات الخياطة ، لأن منظرها أفظع من مخبرها ، ولا يجوز لأي امرأة أو رجل أن يشتري هذه المجلات أو ينظر إليها أو يراجعها لأنه فتنة، قد يشتريها الإنسان وهو يظن أنه سالم منها ، ولكن لا تزال به نفسه والشيطان حتى يقع في فخها وشركها، وحتى يختار مما فيها من أشياء لا تناسب مع البيئة الإسلامية ، وأحذر جميع النساء والقائمين عليهن من وجودها في بيوتهم لما فيها من الفتنة العظمية ، والخطر على أخلاقنا وديننا ، والله المستعان) اهـ.
وكلامه في التحذير من المجلات المليئة بالفسق والخنا مشهور جداً، من أحب أن يراجعه فليراجعه في خطبته المشهورة في ديوان خطبه المعروف بـ(الضياء اللامع من الخطب الجوامع (3 / 469) .

فبالله عليكم ـ يا أهل الإنصاف ـ أيهم أليق بأصول شيخنا رحمه الله ؟!
وأيهم أشد خطراً؟ صورٌ ثابتة، أم صورٌ حيةٌ تعرض على شاشات عاليةِ الدقة، تحسن القبيح من النساء، وتظهر فيها بكامل زينتها، وتتغير فيها قسمات الوجه من تبسم وربما ضحك، وتكسر في الكلام، ونظرات تثير الغرائز ؟!

وكأني ببعض الناس يقول: أنا منذ سنوات أنظر إليها ولم أفتن!!
فأقول: وأي فتنة أعظم من قسوة القلب التي أورثتك هذا الشعور؟!
ورحم الله ابن الجوزي حين قال ـ في كتابه الماتع "صيد الخاطر" ـ : (وربما رأى العاصي سلامة بدنه، وماله فظن أن لا عقوبة، و غفلته عما عوقب به عقوبة ... وربما كان العقاب العاجل معنوياً، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب! كم أعصيك و لا تعاقبني؟ فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري! أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟).

وبكل حال .. فالمعوّل عليه النص الشرعي، وما تقتضيه قواعد الشريعة، لا أذواق الناس التي لا ضابط لها، إذ من الناس من يبلغ به الفجور وموت القلب أن يتلذذ بمعصية الله، والعياذ بالله!

وختاماً .. لا أدري ـ بعد هذا ـ ماذا يراد من نشر مثل هذه الفتوى؟!
أيراد حشد مزيد من الناس ـ الذين ما زال فيهم بقية ورع ودين ـ حول الشاشات التي تظهر فيها الحسناوات بحجة أنها ليست كالصور الحقيقية؟!
إنني أُفَرّقُ ـ بحمد الله ـ بين حالٍ ملحّة أو ضرورة تستوجب النظر إلى الصورة، أو متابعة خبرٍ ما ، له أهمية بالغة بالنسبة للشخص المتابع، وبين أن تنشر مثل هذه الفتوى التي لها ما يخالفها من كلام الشيخ ابن عثيمين نفسه ـ دعك من غيره من العلماء ـ وكأنه يقال للناس تعالوا ،وهلموا فإن النظر إلى صور مقدمات نشرات الأخبار فيه قولان! وتصوير العلماء الذين يحرمون ذلك ـ وهم الأكثرية ـ ومعهم الأصل القرآني المحكم :{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى}وكأنهم متشددون أو مخطئون أو لا يعلمون مقاصد الشرع!!
وصدق الله إذ يقول: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} ، وقد قال الله تعالى في الآية التي قبلها : {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} ، فليُعِد كل واحدٍ منا للسؤال جواباً ، وللجواب صواباً ، فلن يقبل جواب لا يوافق دين المرسلين: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}.

 

وكتبه/

د.عمر بن عبدالله المقبل

جامعة القصيم

16/2/1431هـ

 

  • الكلمات الدالة
2463 زائر
0 | 0

روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات
عمر بن محمد
لا يفضض الله فاك ، بارك الله بكم ونفع فقد أحسنتم البيان وأعذرتم بالإنذار وثبتكم الله وأبقاكم حماة للدين وحراسا للعقيدة في وقت تطاول فيه الرويبضة على العلم والعلماء. متابعكم ومحبكم في الله عمر من الجزائر