أمثال محبطة

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-11-16 12:54:57

أمثال محبطة

تحتل الأمثالُ ـ العربي منها والشعبي ـ مكانةً عاليةً في الموروث الثقافي لكل أمةٍ وبلد، ولا شك أن كثيراً منها يحملُ في طياته خلاصةَ تجاربِ قائليها، وعصارةَ فكرهم، وفي كثير منها وجهٌ من وجوه الحكمة، بل بعضُها يحمل تأريخاً لقصة سارَ بسببها ذلك المثل.

ولشدة تأثير هذه الأمثال على ثقافة كثير من الناس؛ صار بعضُهم يردّدها وكأنها نصوصٌ محكمة، لا يأتيها الباطل مِن بين يديها ولا من خلفها! وأصبح الوالدُ والمعلمُ والشاعرُ والمتحدّثُ في المجالس يستخدمها ـ في بعض الأحيان ـ كدليلٍ قاطع لحسم الخلاف حول قضيةٍ معيّنة!

والأمرُ المؤلم في هذا الموضوع: هو ما يقع من التسليم بمعاني بعضِ تلك الأمثال، والاستسلام لمضامينها السلبية، وانتقال هذا التأثر بفهمها إلى الواقع؛ فتقعدُ بصاحبها عن معالي الأمور، وتَجاوزِ العقباتِ التي تمرّ به، وسأذكر نماذج لبعضها، ليقاس عليها؛ حتى يُعلَم أن بعض هذه الأمثال قد يكون جاء في سياقٍ معيّن، أو ظَرف خاص، ولا يَصح استعماله في كل مناسبة، ولِيُعْلَمَ أيضاً أن بعض هذه الأمثال ينبغي الإعراض عنه.

فمن الأمثال الدارجة - وخصوصاً في الأوساط العلمية -: "ما تَرك الأوَّلُ للآخِر"!

وأكتفي في نقد هذا المثل بقول ابن عبد البَر عن هذه الكلمة: إنها مِن أضر الكلمات بالعلم وبالعلماء والمتعلِّمين([1])، وصواب العبارة عند أرباب الهِمم: كم تَرك الأوّلُ للآخِر!

فالجملة الأولى تحمل رسالةً سلبية بقتل الإبداع، وأن مَن سبَقَنا لم يَترك لنا مجالاً لأنْ نُبدِع، أو نجدِّد، أو نُضيف شيئاً، بخلاف الجملة الثانية؛ فهي تَفتح البابَ على مصراعيه لمن يريد الإضافةَ والتجديد، وتَقديمَ النافعِ المفيد.

ولك أن تتصور لو ركَن العلماءُ الذين جاءوا بعد القرون المفضّلة لهذه الجملة المحبِطة، فهل كنّا سنرى شروحات ابنِ عبد البَر؟ أم تَفنُّن الخطيب البغدادي في التصنيف في علوم الحديث؟ أم هل كانت ستنتفع المدرسةُ الفقهية بمدونات النووي أو ابن قُدامة، وغيرهما من محقّقي الفقهاء؟ أم تُرانا كنّا نستفيد مِن تحريرات وتحقيقات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه ـ وأخص منهم ابن القيم وابن كثير وابن عبدالهادي ـ في شتى الفنون؟ أم هل كانت ستنعم المكتبةُ الإسلاميةُ ـ والحديثية خاصة ـ بتحريراتِ المزيّ وتلاميذه - كالذهبي وابن كثير -؟ أم هل كنّا سنرى تلك الإضافةَ العلميةَ العظيمة في مصنفات ابن حجر وخاصة فتح الباري؟ أم تجدنا مستفيدين من تجديد الإمام محمد بن عبد الوهاب في أبواب التوحيد ـ وخاصة توحيد العبادة ـ؟ أم هل كنّا سنَطْرَب لتحقيقات العلامة المعلّمي اليماني؟ وغير هؤلاء كثير جدًا.

وما أجمل قولِ ابن القيم ـ وأصل الكلمة لشيخه ابن تيمية ـ: "العامّة تقول: قيمة كلّ امرئٍ ما يُحسن، والخاصة تقول: قيمة كلّ امرئٍ ما يَطلب، يريد: أن قيمة المرء همّته ومطلبه"([2])؛ فدع عنك هذا المثل المحبِط، وانظر فيما تتطلع له همّتك، وتأمل ما الطرق التي يمكن سلوكُها لتقديم الجديد والمفيد؛ فاسلكه مستعيناً بالله.

وهذا الكلام ليس خاصاً بعلوم الشريعة فحسب؛ وإنما في جميع الفنون والمجالات - الدعوية، والإغاثية، وغيرها - بل وفي العلوم الدنيوية المحضة؛ إذْ لو استسلم المخترعون لواقعهم، لم ننعم بهذه التقنيات الحديثة، التي لم يكن أكثرها موجوداً قبل مائةِ سنة من الآن.

ومن تلك الأمثال السائرة ـ وهو مثلٌ شعْبي ـ: "يوم شاب دخلَ الكُتّاب"، أي: يوم تقدّم به السنّ بدأ يتعلّم!

وهذا المثل يحمِل رسالةً سلبية لهذا المتعلّم الذي تعلّم على كبَرِ سِنّه، وكأنه يُقال له: ما فائدةُ تعلّمِك في هذا السن؟ ومِن أقرب ما يفنّد مدلول هذا المثل: عموم الأدلة الدالة على طلب العلم وتحصيله؛ ولهذا لما ساق البخاريُّ قولَ عمر رضي الله عنه: «تفقّهوا قبل أن تُسَودوا» علّق عليه البخاري قائلاً: «وبعد أن تُسَودوا، وقد تعلّم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنهم»([3])، ولأنْ يموت الإنسانُ متعلماً خيرٌ له من أن يموت راضيًا بجهله.

وبكل حالٍ، فليس المقصود من هذه المقالة حصرُ الأمثلة التي من هذا النوع، بل التنبيه على ما أشرتُ إليه في المقدمة؛ مِن ضرورة التنبّه للأثر السلبي لهذه الأمثال التي تُردَّد دون وعي في بعض الأحيان، وينقلها اللاحقُ عن السابق، وأن يُدقِّق الإنسانُ في هذه الجُمَل، ولا يلتفت للمثبّط منها والمحبِط، وليكن لسان حاله: "استعن بالله ولا تعجز".

 

 

 



([1]) جامع بيان العلم وفضله (1/ 416).

([2]) مدارج السالكين (3/ 5).

([3]) صحيح البخاري (1/ 25).

  • الكلمات الدالة
5497 زائر
0 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات