عندما يجوع القلب

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-10-26 11:54:52

عندما يجوع القلب

إذا ذُكر الجوعُ فلا يكاد ينصرف الذهنُ إلا للجوع المعروف .. لكن ثمة نوعٌ مِن الجوع أشارت له النصوصُ النبوية، والآثارُ المنقولة عن السلف رحمهم الله، تكشف مظهراً من مظاهر عنايتهم بسدّ هذا النوع من الجوع، الذي ابتُلي به أكثرُ الخلق، لكنهم لا يشعرون به! لفقدِ أو ضعفِ الداعي لهذا الشعور؛ وهو: حياة القلب، واستنارته بنور الوحي.

كمّ مرّ على مسامعنا هذا الدعاءُ النبوي العظيم: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها»([1])، فتأمل "ومن نفس لا تشبع"، إنه حديثٌ عن القلب إذا جاع وتطلعت نفسُه لحطام الدنيا؛ فيجمع ويجمع حتى لا يُوقِف جمعَه هذا إلا اصطدامُه بجدار الموت!

ويلفتُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم النظرَ إلى هذه الحقيقة بأسلوب آخر، حين أوصى تاجراً من تجار المسلمين ـ وهو حكيم بن حزام ـ فيقول له: «يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى»([2])، إنه تحذيرٌ غير مباشر من الوصول إلى تلك الحال التي تعوّذ منها صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق، ألا وهي: ظهور أعراضِ هذا الجوع القلبي بالاستشراف والتطلُّع للمال، فهو جوعٌ دائمٌ "يأكل ولا يشبع"!

ومن تأمل هذه الحال؛ عرف ورأى أعراضَ هذا الجوع على أحوالِ كثيرٍ من الناس الذين أقْفرت قلوبُهم من كنز "القناعة"، وتعطَّلت عندهم حاسةُ ذوقِ لذة "الكفاف"، فتلاشت أو أوشكت أن تتلاشى من حياتهم جماليةُ صورة "الفلاح"، تلك الثلاثُ التي جمعها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقنَّعه اللهُ بما آتاه»([3]).

وثمة جوعٌ لا يُشبهه جوعٌ، ألا وهو: جوعُ القلب من لذة القرآن، وتدبُّر آياته، والعيش معه، والأنس بمناجاة الله بكلامه، والتلذذ بخطابه جل جلاله، وإلى هذا المعنى يُشير الخليفةُ الراشد أميرُ المؤمنين عثمان رضي الله عنه بقوله: "لو صحّت قلوبُكم ما شبعتم من كلام الله"!([4]) فلنتأمل هذه الكلمة، ثم لنفتِّش عن مساحة الجوعِ التي تحتل قلوبَنا! ولنفكر في السبب الذي لأجله لا يستطيع الواحدُ منّا أن يُمسك المصحفَ سويعةً من زمن، أو يبقى معه وقتاً يليق به! أو يشعر بالمجاهدة العظيمة ـ وكأنه يحمل أثقالاً ـ إذا ابتدأ بتلاوته! إنه مرضٌ أصابَ القلبَ واعتلّ معه اعتلالاً جعله يشعر بالشبع من أول وجه يقرؤه، ولا يشعر بالجوع والألم عندما يفوته حزبُه منه!

وفي الجملة.. فإن جوع القلوب حالٌ تَعرِض لكل أحد، لكن الشأن بالشعور بهذا الجوع والألم، الذي يدفع لسدِّ جوعتِه، كما يحرص الإنسانُ على سدِّ جوعة البدن.

ومتى ما شعرنا بالجوع، فتلك بدايةُ التصحيح، فمَن جاع بحث عما يسدُّ جوعتَه، ومَن لم يشعر فليبحث عن قلبه، وليتذكر أن القلبَ فيه شعثٌ "لا يلمّه إلا الإقبالُ على الله، وفيه وِحشة، لا يزيلها إلا الأنسُ به في خلوته، وفيه حزنٌ لا يُذهبه إلا السرورُ بمعرفته وصِدْق معاملته، وفيه قلقٌ لا يُسكّنه إلا الاجتماعُ عليه، والفرارُ منه إليه، وفيه فاقةٌ لا يَسدُّها إلا محبتُه، والإنابةُ إليه، ودوامُ ذِكره، وصدقُ الإخلاص له، ولو أُعطي الدنيا وما فيها لم تُسَد تلك الفاقةُ منه أبداً"([5]).



([1]) صحيح مسلم ح(2722).

([2]) صحيح البخاري ح(1472)، صحيح مسلم ح(1035).

([3]) مسلم ح(1054).

([4]) الزهد لأحمد بن حنبل، رقم (680)، وفي سنده انقطاع.

([5]) مدارج السالكين (3/ 156).

  • الكلمات الدالة
  • $tages
14493 زائر
12 | 2
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات
أم أنس
جزاكم الله عنا خيرا يادكتور.
أم أنس
جزاكم الله عنا خيرا يادكتور.
أم أنس
جزاكم الله عنا خيرا يادكتور.
..
بارك الله فيك .. يعجبني ذكرك لدرجة الحديث وحكمه في الهامش