المرآتيون
قبل نحو عشرين سنة؛ طلبَ مني مرةً أحدُ الأصدقاء ـ وهو طالب علم ـ أن أذكر له ما أراه من ملاحظاتٍ وعيوبٍ لا يَسلَم منها البشر، فأكبرتُ هذا منه، وأفادني بموقفه هذا درساً عظيماً في تلمّس الكمالات، والاعتراف بالنقص.
المهم أني قلتُ له: لا يحضرني شيء الآن، لكن دعني أنقلُ لك ملاحظةً سمعتُها من أحدِ الإخوة، فلما ذكرتُها له، بيّن لي عذرَه فيما انتقده عليه ذلك الشخص، ودعا له وشكره، ثم سألني عن مستوى هذا الأخ الناصح العلمي وليس عن اسمه؟ فاستغربتُ سؤالَه هذا! فقال: أريد أن أُهدي له هديةً تليق به، ولأعبِّر عن شكري له على ما قال، بغض النظر عن دقة فهمه لما جرى، فأخبرتُه أنه طالب علم يدرس في كليةٍ شرعية، فذهبنا جميعاً إلى أحد المكتبات فاشترى كتاباً تساوي قيمته الآن 400 ريال في ذات التخصص الذي يدرس فيه ذلك الأخ الذي نقلتُ نصيحتَه، فازداد عجبي من هذا الصديق أكثر وأكثر!
ثم وجدتُ ـ بعد ذلك ـ من فعال السلف ما انطبق على حاله، فهذا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر يقول: قال لي بلال بن سعد: "بلغني أن المؤمنَ مرآة أخيه، فهل تستريب مني من أمري شيئًا؟"!
وأبو هريرة رضي الله عنه يقول: "المؤمنُ مرآة أخيه، إذا رأى فيه عيباً أصلحه"، ويُروى هذا الحديثُ مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: "المؤمن مرآة المؤمن"([1])، فالإنسان إذا وقف أمامَ المرآة رأى صورتَه الحقيقية، بما فيها من حَسَن وسَيّء؛ لأن المرآة تعكس صورةَ الشخص بحُسنها وقَبيحها، والإنسانُ ربما لا يستطيع أن يعرف نفسَه، ولا يَرى نفسَه جيداً، إلا من خلال رؤية أخيه المسلم الذي هو مرآة له:
فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ** ولا ترى نفسها إلا بمرآةِ
فمَن منّا يملك الشجاعةَ ليبادر إلى خاصةِ إخوانه الذين يخالطهم بكثرة، ويراهم أو يحادِثهم كما يَرى المرآة، ليسألهم عن عيوبه وجوانبِ النقص فيه، ولا ينتظر أن يأتي أحدٌ لينصحه، فإن هذا قد لا يَجرؤ عليه إلا القليلُ من الأصدقاء؛ خشيةً من تَبِعات هذه المبادرة بالنصيحة، إذ النُّصح لا يتقبله ويحتفي به إلا النوادر من الأصحاب، لأن النصيحة تعني الكشف عن العيوب!
ومن المتفق عليه أنه لا أحدَ منّا يخلو من نقص وعيب، على حدّ قول الحريري:
من ذا الذي ما ساء قط ** ومن له الحسنى فقط؟!
فمن العقل أن نفتح الباب، ونمهّد الطريقَ لخاصة أصحابنا ليقوِّموا ويقيّموا ما يرونه منّا، خصوصاً مَن يكثر اختلاطُه بالناس، ويتصدى لنفعهم، فإن مظنّة الخطأ من هذا النوع أكثر؛ لكثرة ملابستهم للناس، ولتنوع المواقف التي تقع من الآخرين تجاههم، ففيهم الجاهلُ والصغير وصاحبُ الحاجة، ممن يُتوقع منهم صدور ما يستفزّ العاقل!
ومن المهم - ونحن في ميدان "المرآتية" - أن يحرص الناصحُ على لزوم أرفع درجاتِ الأدب، وحُسْنِ اللفظ عند التعبير عن المراد، مراعياً الوقت والحالَ الأنسبَ لبذل النصح، وعلى المنصوح أن يكون واسعَ الصدرِ لتَلَقِي الخطأ، والتنبيهِ على الزلّة، وأن ينظرَ إلى هذا التنبيهِ والنصحِ على أنه خطوة إلى الأمام في سبيل التخفف من العيوب، بل ينبغي أن يُشعِر الناصحَ بالامتنان على نصحه وتنبيهه؛ لأن هذا سيشجعه في المستقبل على الاستمرار؛ حيث رأى أنك تجاوبتَ معه، ولو رأى عكس ذلك فسيُحجم عن النصح.
ومِن توفيق الله للمنصوح أن ينظر إلى كلامِ الناصح بما نظر إليه الخليفةُ الصالح عمر بن عبدالعزيز على أنها هديّة، حين قال: "رحم الله من أَهدى إليّ عيوبي"، وأنه يريد له الكمال الممكن، وسيجد للنصح لذةً أخرى، وسيتلقاها بنفسٍ رضيّة، وسيُدرك أن الأخ الحقيقيَّ هو مَن صدَقَه لا مَن صدّقه، وأن الأخ للأخ كاليد لليد، لا غنى لها عن الأخرى، لا حرمنا الله مرايا الصدقِ من إخواننا.