فقهاء الحسد
حين يُذكر الفقه، فلا يكاد ينصرف الذهنُ إلا للفقه في الدين، وهو شيءٌ مفهوم، ولكن ثمةَ نوعٌ من الفقه يمنّ اللهُ به على مَن يشاء مِن عباده، وهو الفقه بأدواء النفوس، وكيفية التعامل معها، والقدرةِ على نزع فتيل تلك النار التي تشتعل في قلوب بعض الأنفس التي لا ترى إلا المساوئ، ولا تعرف الإنصاف!
ومن صور هذا الفقه: التعامل مع الحُسّاد، إذْ لا يَسلَم ذو نعمة من حاسد، "وبحسب فضل الإنسان، وظهور النعمة عليه؛ يكون حسد الناس له، فإن كثُر فضلُه كثر حسّاده، وإن قلّ قلّوا، لأنّ ظهور الفضل يثير الحسد، وحدوثَ النعمة يضاعف الكمَد"([1]).
وفي القرآن الكريم وفي السنة النبوية إشارات إلى فقه التعامل مع هذا النوع من الناس، منها:
· العفو والصفح عن الحاسد، أو الإعراض عنه تماماً، حتى يُظْهِر اللهُ المحسود عليه، كما في قوله تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ من بعد ما تبين لهم الحق فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[البقرة: 109].
وفي قصة يوسف عليه الصلاة والسلام أظهَرُ دليلٍ على هذا المعنى، فلله دره حين قال: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾[يوسف: 92]، بل بالغ في الإعراض عن ذكر آثار حسدهم ولو بالإشارة، فقال: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾[يوسف: 100].
وفي تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع رأس النفاق عبدالله بن أُبي منهجٌ واضح في هذا، فإن ابنَ أبيّ لم يمنعه من القبول برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، والانقياد لأمره إلا الحسدُ، إذْ كان يترقب تسويدَه على أهل المدينة، فلما بُعث صلى الله عليه وسلم شرِقَ بدعوته، فعاداه، وآذاه، حتى أظهر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم عليه.
· إشعارُ الحاسد تصريحًا أو تلميحاً ـ وهذا يختلف بحسب المقام ـ بأنه لا يمنعني من مقابلة آثار حسدك إلا خوفُ الله تعالى، وفي قصة ابْنَي آدم ما يشير إلى هذا: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾[المائدة: 28، 29].
· إفهام الحاسد - برسالة واضحة - بأن الحسد لن يضرني ولن ينفعك، كما يعبّر عن ذلك موقفُ شُريحٍ القاضي من رجلٍ قال له: إني لأحسدك على ما أرى من صبرك على الخصوم، ووقوفك على غامض الحكم! فقال: ما نفعك اللهُ بذلك ولا ضرني.
· الصبر على أذى الحاسد، وعدم شكواه، ولا يحدّث نفسَه بأذاه أصلاً! فما نُصِرَ محسودٌ على حاسده بمثل الصبر عليه، والتوكّلِ على الله، فهو من أقوى الأسباب الّتي يَدْفع بها العبدُ ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمِهم وعدوانهم، ومن كان اللهُ حسبَه وكافيه وواقيه فلا مَطمَع فيه لعدوّه.
· الإحسان إلى الحاسد، وهذا ـ كما يقول ابن القيّم ـ "من أصعب الأسباب على النفس، وأشقّها عليها، ولا يوفّق له إلّا مَن عظُم حظّه من الله"، قال تعالى: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ* وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[فصلت: 34-36].
وبالجملة.. فإن الفقه في التعامل مع الناس مِنّةٌ إلهية، ومِنحةٌ ربانية، يوفَّق لها من اجتهد في تحقيق هذه القاعدة القرآنية من قواعد التعامل: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين﴾[الأعراف: 199].