معلمٌ في ذاكرة تلميذ
دعني أنتقل وإياك ـ أخي القارئ
الكريم ـ بمشاعرنا وأشواقنا إلى طيبةَ الطيّبة، حيث النبيُّ صلى الله عليه وسلم
يصلي بأصحابه رضوان الله عليهم، وكان فيهم معاوية بن الحكم السُّلَمي ـ رضي الله
عنه ـ الذي حدّثنا عن قصته التي وقعت حين عطس رجلٌ من القوم، قال: فقلت: يرحمك الله،
فرماني القومُ بأبصارهم، فقلت: واثكل أمّياه! ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون
بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتُهم يصمّتونني ـ أي يسكتونني ـ سكتُّ، فلما صلى رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيتُ معلمًا قبله ولا بعده أحسنَ تعليمًا
منه، فوالله ما كهَرني، ولا ضربني، ولا شتمني! قال: «إن هذه
الصلاةَ لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»([1]).
هذا موقفٌ بين سيّد المعلّمين
وإمامهم صلى الله عليه وسلم، وبين أحَد تلاميذه، عالجَ فيه الخطأَ الذي وقع فيه
تلميذُه بأسلوبٍ بقي أثرُه في وجدانه محفوراً، فصار يحدّث به بعد ذلك حديثَ المعجَب
بأسلوب معلّمه، وطريقة إرشاده! استدعاه، ثم أخبره بالخطأ، ولم يبادره بالتعنيف
أمامَ الناس، ولا بالتبكيت بينه وبين تلميذه، ولا عبس في وجهه، ثم شرح له وجه
الخطأ الذي وقع فيه، وبيّن الطريقةَ الصحيحة، كلّ هذا جعله يقول وبصوت مسموع:
"فبأبي هو وأمي، ما رأيتُ معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني،
ولا ضربني، ولا شتمني!" صلى الله عليه وسلم.
تذكرتُ هذا الموقف، وأنا أستمع لصديقي الذي يحدّثني وبمرارة عن موقفٍ حصل له مع أحد أساتذته في المرحلة الابتدائية
ـ أي أنهم أطفال صغار ـ، حيث دخل الأستاذُ ومعه عصاً غليظة، فأمرني وبعضَ الزملاء
بالقيام والاصطفاف صفاً إلى الجدار، وبدأ بضربنا واحداً واحداً، ومن شدة الضرب فإن
أحد مَنْ كان ينتظر دورَه في هذا المشهد أُغمي عليه قبل أن يَصِله الدَّور!! ثم يواصل
صديقي حديثَه قائلاً: إلى هذه اللحظة ـ وقد مضى على هذا الموقف قرابة الأربعين
عاماً ـ لا أدري لم ضُرِبْنا؟! وما الجُرْم الذي أخطأنا فيه لنُعاقَب هذا العقاب؟!
ووالله كلما تذكّرتُ أحاديثَ الصفح والعفو في عرَفة والعشر الأواخر يلوح لي ذلك
المعلّم، فأجاهد نفسي وأغالبها على العفو عنه؛ فلا أستطيع، أو أجد كُلفة شديدة في
هذا!
تأمل الفرق ـ أخي القارئ ـ بين
الموقفين! كلاهما بقي في الذاكرة، لكن شتّان بينهما!
فرقٌ بين تلميذ يتحدّث بشوق وحب عن
معلّمه الذي أرشده وبيّن له وجهَ الصواب، ولم يواجهه بما يكره، وبين تلميذٍ ترى
انعقادَ جبينه، وتسمع حشرجةَ صدره، وتشعر بضيق نفسه وهو يتحدث عن مدرس ظلَمه وضرَبه
بغير حق!
يمرُّ علينا ـ معشرَ المعلمين
والمعلّمات ـ مئاتُ وربما آلافُ الطلابِ في مدارسنا وجامعاتنا، وقد لا يبقى في
ذاكرتنا منهم إلا القليل، لكن من المؤكد أننا ـ وبفضل الله ـ نستطيع أن نحفر أسماءَنا
في ذاكرة تلاميذنا بحسنِ تعاملنا، وجميلِ أخلاقنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، فليس
بالعلم وحْده نستطيع أن نكسب تلاميذَنا، ونجعل ذلك وسيلةً لإيصال الحق والعلم الذي
نعلّمهم إياه، بل هذا ـ كما يشهد التاريخ والواقع ـ لا يكفي ما لم يقترن بخُلُق
حسن، ورحمةٍ بالمتعلِّم، وفي التنزيل ـ في معرض الثناء على الخضر عليه الصلاة
والسلام ـ: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾[الكهف: 65].
لقد كنا طلاباً قبل أن نكون معلمين،
فلننظر في الذي كنا نحبّه من أساتذتنا وشيوخنا من جميل الفعال؛ فلنفعله مع طلابنا،
فإنهم يحبون هذا منّا، والعكس بالعكس.