معلم في ذاكرة تلميذ

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-09-01 22:58:19

معلمٌ في ذاكرة تلميذ


دعني أنتقل وإياك ـ أخي القارئ الكريم ـ بمشاعرنا وأشواقنا إلى طيبةَ الطيّبة، حيث النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه رضوان الله عليهم، وكان فيهم معاوية بن الحكم السُّلَمي ـ رضي الله عنه ـ الذي حدّثنا عن قصته التي وقعت حين عطس رجلٌ من القوم، قال: فقلت: يرحمك الله، فرماني القومُ بأبصارهم، فقلت: واثكل أمّياه! ما شأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتُهم يصمّتونني ـ أي يسكتونني ـ سكتُّ، فلما صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيتُ معلمًا قبله ولا بعده أحسنَ تعليمًا منه، فوالله ما كهَرني، ولا ضربني، ولا شتمني! قال: «إن هذه الصلاةَ لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»([1]).

هذا موقفٌ بين سيّد المعلّمين وإمامهم صلى الله عليه وسلم، وبين أحَد تلاميذه، عالجَ فيه الخطأَ الذي وقع فيه تلميذُه بأسلوبٍ بقي أثرُه في وجدانه محفوراً، فصار يحدّث به بعد ذلك حديثَ المعجَب بأسلوب معلّمه، وطريقة إرشاده! استدعاه، ثم أخبره بالخطأ، ولم يبادره بالتعنيف أمامَ الناس، ولا بالتبكيت بينه وبين تلميذه، ولا عبس في وجهه، ثم شرح له وجه الخطأ الذي وقع فيه، وبيّن الطريقةَ الصحيحة، كلّ هذا جعله يقول وبصوت مسموع: "فبأبي هو وأمي، ما رأيتُ معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني!" صلى الله عليه وسلم.

تذكرتُ هذا الموقف، وأنا أستمع لصديقي الذي يحدّثني وبمرارة عن موقفٍ حصل له مع أحد أساتذته في المرحلة الابتدائية ـ أي أنهم أطفال صغار ـ، حيث دخل الأستاذُ ومعه عصاً غليظة، فأمرني وبعضَ الزملاء بالقيام والاصطفاف صفاً إلى الجدار، وبدأ بضربنا واحداً واحداً، ومن شدة الضرب فإن أحد مَنْ كان ينتظر دورَه في هذا المشهد أُغمي عليه قبل أن يَصِله الدَّور!! ثم يواصل صديقي حديثَه قائلاً: إلى هذه اللحظة ـ وقد مضى على هذا الموقف قرابة الأربعين عاماً ـ لا أدري لم ضُرِبْنا؟! وما الجُرْم الذي أخطأنا فيه لنُعاقَب هذا العقاب؟! ووالله كلما تذكّرتُ أحاديثَ الصفح والعفو في عرَفة والعشر الأواخر يلوح لي ذلك المعلّم، فأجاهد نفسي وأغالبها على العفو عنه؛ فلا أستطيع، أو أجد كُلفة شديدة في هذا!

تأمل الفرق ـ أخي القارئ ـ بين الموقفين! كلاهما بقي في الذاكرة، لكن شتّان بينهما!

فرقٌ بين تلميذ يتحدّث بشوق وحب عن معلّمه الذي أرشده وبيّن له وجهَ الصواب، ولم يواجهه بما يكره، وبين تلميذٍ ترى انعقادَ جبينه، وتسمع حشرجةَ صدره، وتشعر بضيق نفسه وهو يتحدث عن مدرس ظلَمه وضرَبه بغير حق!

يمرُّ علينا ـ معشرَ المعلمين والمعلّمات ـ مئاتُ وربما آلافُ الطلابِ في مدارسنا وجامعاتنا، وقد لا يبقى في ذاكرتنا منهم إلا القليل، لكن من المؤكد أننا ـ وبفضل الله ـ نستطيع أن نحفر أسماءَنا في ذاكرة تلاميذنا بحسنِ تعاملنا، وجميلِ أخلاقنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، فليس بالعلم وحْده نستطيع أن نكسب تلاميذَنا، ونجعل ذلك وسيلةً لإيصال الحق والعلم الذي نعلّمهم إياه، بل هذا ـ كما يشهد التاريخ والواقع ـ لا يكفي ما لم يقترن بخُلُق حسن، ورحمةٍ بالمتعلِّم، وفي التنزيل ـ في معرض الثناء على الخضر عليه الصلاة والسلام ـ: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾[الكهف: 65].

لقد كنا طلاباً قبل أن نكون معلمين، فلننظر في الذي كنا نحبّه من أساتذتنا وشيوخنا من جميل الفعال؛ فلنفعله مع طلابنا، فإنهم يحبون هذا منّا، والعكس بالعكس.

 


([1]) مسلم ح(537).

  • الكلمات الدالة
7001 زائر
4 | 1
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات
PtickCrype
Levitra 40 Mg Best Price Where To Buy Levitra Cheap Cialis Jambes Lourdes cialis Alli Refills Buy Cheapest Cialis Soft Pfizer Buy Kamagra How To Order Nympho Max Drugs Dosage Cialis 20 Cialis Y Dolor De Cabeza cialis Buy Zithromax Online Usa Doryx From Canada Amex Accepted Prix Du Viagra En Parapharmacie viagra Viagra Uk Retailers Generique Cialis Prix Clomid Oromone Ovulation Keflex Clotrimazole Cream And Towin Generika Cialis Kamagra buy propecia 5mg Nolvadex Side Effects Wie Wirkt Viagra De Finasteride Mail Order Virginia Beach viagra Canadian Generic Drug Manufacturers Zithromax For Gonorrhea