بوح لجامعي مستجد

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-08-24 10:06:06

بوح لجامعي مستجد

 

أحسب أن المرحلة الجامعية من أهم وأكثر المراحل التعليمية التي يشعر فيها الطالب بالاعتماد على نفسه بعد الله تعالى، لذا كانت هذه الأسطر التي ذكرتُ فيها شيئاً من تجربةٍ مضى عليها أكثر من عشرين عاماً، لا أزعم أن فيها جديداً؛ لكن ربما كانت التجارب من أصدق ما يُنقل، فلأجيالنا الحاضرة حقٌ علينا في نقل ما استفدناه، والتحذير مما جرّبناه ولم نستفد منه، ولعل في نقل التجربة القريبة ما يعين على تحقيق أكبر المكاسب من هذه المرحلة "الذهبية" من عمر الشاب والفتاة.

مجموعُ الساعات التي يقضيها الطالب في هذه المرحلة أكثر من "ألفي ساعة" في المتوسط الدراسي وهو أربع سنوات، يتلقى فيها أنواعاً شتى من المعارف، ويلتقي أساتذةً تختلفُ مشاربهُم وطرقُهم في التعليم والتعامل، فماذا يعني هذا؟

الفطنُ من الطلاب من صحّح نيّته في دراسته مهما كان تخصُّصه، ويتأكد هذا في طلبة العلم الشرعي، حتى لا تمضي عليه ساعاتُ العمر دون قصدٍ حسنٍ، يضاعفُ الثوابَ، ويباركُ العملَ.

ومن علامة التوفيق للطالب أنك تراه متحلياً بزينة الأدب والخُلُقِ الحسن، عازماً على الاستفادة من كل أستاذ في فنّه، مُعرضاً عن أولئك الذين ينظرون للمدرسين بمناظير ضيقة لا تتجاوز المظهر! ويرى أن من نعمة الله تعالى عليه أن سخّر له بعضَ المتخصصين في فنونهم، ليفيد منهم فيما يحسنون، وألا يصدّه عن ذلك وجودُ ضعفٍ في بعض الأساتذة، لأنه يثقُ أنه ما من أستاذ يقف أمامه في الجامعة إلا وسيجد عنده ما يفيد وإن قلّ.

وإذا غلب على ظنك ـ أيها الطالب اللبيب ـ أن هذا الأستاذ ليس بقوي في مادته فاستفد من ذلك في حياتك العلمية بتقوية عِلْمِكَ، حتى لا تقف موقفه في مستقبل أيامك أمام طلابك، أو أمام المختصين في المجال الذي ستختاره بعد التخرج.

والأستاذُ ـ مهما بلغ من العلم في تخصصه ـ قد تفوته أشياء، فليس من المناسب إظهارُ الاستدراك بثوب التعالم، أو الاطلاع، ونحو ذلك من الصور التي تُخفي تحتها ألواناً من الكبر والتيه العلمي ـ عياذاً بالله ـ!

ولا أنسى أحدَ الزملاء الذي كان يأسرني بأدبه وحسن خُلقه، إذا أراد الإفادة أو الاستدراك على أستاذنا؛ فهو يطرح السؤال بأدب جمّ يكسب به قلب أستاذِه، ويعطي به درساً لزملائه في كيفية التنبيه والإفادة دون جرحٍ للمشاعر، أو استعلاء بالمعلومات، فإن الكبر والاستعلاءَ أحدُ الحُجب الكثيفة التي تُعمي عن رؤية الحق، وإصابة المراد، كما قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾[الأعراف: 146]، قال ابن عيينة وغيره من السلف: أمنعهم فهم القرآن([1]).

وفي قصة موسى مع الخضِر ألوان من أدب الطالب مع شيخه، وإن كان الطالب أفضل من حيث الجملة ـ فكيف إذا لم يكن الأمر كذلك ـ حريٌ بالموفّق مراجعتها والاستفادة منها.

ومِنْ أكثر ما استفدته في تلك المرحلة: صحبةُ الطلابِ الجادينَ الذين يُشعرونني دوماً بأنني مهما بذلتُ من الجهد والقراءة والاطلاع ومعرفة جديد الكتب؛ فلا أزال مقصّراً! فكنت أستقلّ كلَّ ما أفعل، مع نيةٍ شرودٍ بقصد المنافسة ـ عفا الله عنا جميعاً ـ فاحذر من صحبة الكسالى، فإن صحبتهم جرَبٌ مُعدي، وداءٌ مُردي، وخسارة محقَّقة.

ومن أعظم ما استفدته من تلك الصحبة: الحرصُ الشديد على الوقت، واغتنامُ الأوقات الضائعة بين المحاضرات، وحين انتظار وصول الأستاذ لقاعة الدرس! فمِن طلاب الجامعة من أنهى قراءة تفسير ابن كثير "الأصل" في هذه الأوقات الضائعة، ومنهم من قسّم السنوات الجامعية ليحفظ فيها أصولَ العلم، فللقرآن سنة، وبعضهم جعلها سنتان، وباقي السنوات لحفظ أهم المتون الشرعية، فحفظ مختصر الصحيحين، وكتابَ التوحيد، و"نخبةَ الفكر"، و"الواسطية"، و"الورقات"، وغيرها من المتون التي انتفع بها في حياته العلمية بعد ذلك.

ومن الطلاب من جعل معه في سيارته ـ التي يتردد فيها مع زملائه ـ كتباً يقرؤها بدلاً من تقطيع الوقت كلّه في الأحاديث التي يمكن الاكتفاء ببعضها، وتأجيل أكثرها.

وأحاذرك من بعض ما يفعله بعضُهم من القراءة أثناء شرح الأستاذ بحجة استغلال الوقت! مهما كان مستوى المدرس علمياً في نظرك، فهو كما لا يليق أدباً ولا ذوقاً؛ ففيه من مداخل الشيطان والرياء ما يحبط العمل، ويمحق بركته! وأيّ معنى لطلب العلم بلا إخلاص أو مجاهدة للقلب عليه؟ إنه كمَن يحشو جرابه تراباً، يُثْقله ولا ينفعه.

هذه بعض الخواطر التي سنح بها الخاطر، بمناسبة بدء العام الدراسي، أرجو أن تصل إلى قلوب من قصدتهم بها كما خرجت من قلبٍ يحبهم، داعياً الله تعالى أن ينفع بهم الأمة جمعياً.



([1]) انظر: تفسير الطبري (10/ 443).

  • الكلمات الدالة
13460 زائر
4 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات