قصة أخرى مع شيخ من أهل القرآن
في يوم الأحد 18/3/1430هـ تشرفتُ بزيارة أحدِ المشايخ الأجلاء؛ لأداء لبعض حقه إثر عملية جراحية أجراها، فكانت زيارة حافلة ماتعةً، وكان أجمل ما فيها حديثُ الشيخ عن القرآن، وعلاقته به، وكان مما جرى في اللقاء أمور، سأذكر هنا بعضها.
وأنا أدلفُ إلى منزل صاحبنا تذكرتُ قصةً قصيرة جداً، لكنها معبرةٌ، كنتُ قد قرأتُها قديماً، وهي: أن معروفاً الكرخي ذُكر عند الإمام أحمد، فقيل: قصير العلم! فقال الإمام: أَمسِك!! وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟!([1])
وسألَ عبدُ الله بن الإمام أحمد أباه مرةً: هل كان مع معروف شيء من العلم؟ قال: يا بني! كان معه رأسُ العلم؛ خشيةُ الله!([2])
تذكرتُ ذلك؛ لأن بعض طلاب العلم ينظرون إلى هذا النوع من الشيوخ الذين غلب عليهم التعبّد ـ مع مشاركتهم الجيدة في العلوم ـ نظرةً كتلك النظرة التي أُثيرت في مجلس الإمام أحمد!
فيقال لهؤلاء ما قاله الإمام أحمد: وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه هذا الشيخ ـ الذي هو محور قصتنا ـ ؟! ولا أزكيه على الله.
إنه من الشيوخ النوادر الذين رأيتُهم قد جمعوا بين العلم والعبادة والدعوة ـ أيام نشاطه ـ أي الذين أخذوا بثلاثية النجاة بإذن الله:
العلم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: 1].
والعبادة (قُمِ اللَّيْلَ) [المزمل: 2].
والدعوة (قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر: 2].
عُرِفَ عنه ـ حفظه الله وعافاه ـ ضبطُه لحفظه لكتاب الله، وهو من أهل قيام الليل.
حدثني ابنُه: أنه يقوم نحواً من ثلاث ساعات في الليل، صيفاً وشتاءً! بل إنه لم يدَعْ قيامَ الليل في ليلة عرسه كما حدثتني بذلك أمي ـ والكلام لابنه ـ، وقال لي والدي مرةً أيام كان في المستشفى: أنا أفرح إذا لم يأتني النوم! أتدري لماذا؟ لأني أجدها فرصةً لقراءة القرآن وقيام الليل! - يقول هذا وهو مريض ومنوّم في المستشفى -!
أجرى هذا الشيخ عمليةً جراحيةً في رأسه قبل بضعة أشهر، كان مِن آثارها ضعفٌ يسير في ذاكرته، أثّر عليه في حفظه، فلم يعد يعهده كما كان في الضبطِ والإتقان، يقول لي هذا الشيخ: ضاق صدري جداً، مع علمي بأن هذا ليس بسبب تفريطي، وليس لي به طاقة، وأنا لا أجد للدنيا طعماً بدون القرآن! يقول: فتضرعتُ إلى ربي ليالٍ كثيرة ودعوته، وصرتُ أصيح صياحاً: يا رب! يا رب! لا أريد أن يضعف حفظي لكتابك يا رب!
يقول هذا الشيخ: فما هي إلا عشرون ليلة حتى جاء الفرج، فعاد الحفظ كما كنتُ أعهده، والحمد لله رب العالمين.. فلا إله إلا الله! إني لأحسبُ هذا مِن صِدْقه مع الله حال رخائه؛ فصدَقَه اللهُ حين تضرع إليه، ولا أزكيه على الله تعالى.
وقد حدثني أحد أبنائه فقال: أثناء حالات الإغماء التي مرّت بوالدي، كنتُ أقرأ عليه بعض الآيات ـ من باب الرقية ـ فإذا أخطأتُ ردّ علي!
يرد علي وهو لا يشعر بما حوله، فكأن القرآنَ مسجّل في رأسه تسجيلاً! (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الجمعة : 4].
مضى الحديث مع هذا الشيخ العابد سريعاً، فقلتُ له ـ قبل أن أنصرف ـ: أوصني يا فضيلة الشيخ!
فقال: يا أبا عبد الله! احفظ عني هذه الوصايا الثلاث:
الأولى: اللهَ اللهَ بالنية، فكما تتفقد طعامَك وشرابَك إذا جاع بطنُك؛ فتفقد نيتك، فهي غذاء قلبك، وما قيمة العمل بدونها؟!
والثانية: عليك بتعاهد حفظك من القرآن، فوالله إن هذا من أعظم المنن، ثم ذكر الشيخُ تحسُّره، وألمه على أكثر من يتخرجون أو من يقال عنهم: إنهم قد حفظوا القرآن! لا ضبط، ولا مراجعة! حتى إذا أراد أن يقرأ تلفّت هل حوله مصحف أم لا؟! أهذا حفظٌ؟!
الثالثة: أوصيك ـ وأنت ذو عيال ـ أن تُكثر وتُردِّد وتلح على دعاءين ـ هما من القرآن ـ فقد وجدتُ لهما أثراً كبيراً في نفسي وحياتي:
الدعاء الأول: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الفرقان: 74].
الدعاء الثاني: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِين)[الأحقاف: 15].
عندها .. ودعتُ هذا الشيخ، وسألتُ الله لي وله الثبات وحسن الختام، وغبطته ـ والله ـ كثيراً على ما هو فيه من نعيم مع كتاب الله تعالى.
ولولا أن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، ولعلمي بكراهته؛ لذكرت اسمه، فسأكتمه حتى تأتي الساعة المناسبة للتصريح باسمه، وإني راجٍ من إخوتي الذين عرفوا اسمه من خلال أسطري هذه أن يُحجموا ويمسكوا عن ذكر اسمه، للسببين الذيْن ذكرتهما، والحمد لله رب العالمين.