الرموز في مرمى الغلاة

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-08-11 00:17:37

الرموز في مرمى الغلاة

مصطلح "الرموز" في حديث الناس يشير إلى بعض فئات المجتمع ذات التأثير فيه؛ كالسياسي، والشرعي، والاجتماعي.

والرموز الشرعية هي أكثر هذه الفئات التي يحرص الغلاةُ ـ وعموم المنحرفين فكرياً ـ على إسقاطها، لعلمهم بقوة تأثيرها - ليس على شباب بلادهم فحسب، بل - في العالم أجمع، وهم في هذا يطبقون ـ شعروا أم لم يشعروا ـ الطريقة اليهودية التي نصّت عليها بروتوكولات حكماء صهيون، الذي يقول: "وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين في أعين الناس ـ ويعنون برجال الدين هنا: العلماء من غير اليهود ـ، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤوداً في طريقنا، وإن نفوذ رجال الدِّين على الناس ليتضاءل يوماً فيوماً"([1]).

بل هذا منهجٌ معروف سلكه قديماً رؤوسُ أهل البدع، فهذا عمرو بن عبيد ـ أحد رؤوس المعتزلة ـ يقول: "لو شهد عندي علي، وطلحة، والزبير، وعثمان؛ على شِراكِ نعل ما أجزتُ شهادتهم!!"، وقال مرةً مستنقصاً الإمامين الحسن البصري، ومحمد بن سيرين: "ألا تسمعون من كلام الحسن وابن سيرين عند ما تسمعون إلا خرق حيضة مطروحة؟!"([2]).

فما أشبه الليلة بالبارحة! فأربعة من المبشَّرين بالجنّة لا تُقبلُ شهادتهم عند هذا الرقيع! واليوم يرددُ بعضُ الغلاة ومَن شابههم عبارة عمروٍ في علماء كبار، ويقولون عنهم: إنهم علماء حيض ونفاس!

إن الشاب في بواكير عمره يحتاج إلى قدوة يتمثلها، ورمزٍ يتأسى به، وفي البيئة المتديّنة تبقى فئةُ العلماء الكبار، والدعاةُ المؤثرين؛ من أكثر الرموز الشرعية تأثيراً على هذه الطبقة، وكلما كان "الرمز" ذا قَدرٍ ومكانة كبيرة في نفس الشاب؛ صار مصدر إلهامٍ للشاب في حياته، ودافعاً للعمل ومزيدٍ من الفأل، فإذا حُطّم الرمز في نفسه، فهذا يعني تحطّم مستقبله، وإغلاقَ نافذة الفأل التي يتنفس منها عبيرَ الأمل في هذه الأجواء المحزنة!

لهذا يلجأ الغلاة ـ مثل داعش وغيرهم ـ إلى الطريقة اليهودية في تشويه صورة هذه الرموز! يَسْبِقُ هذا كلّه حملةٌ ضخمة لتشويه الدولة التي ينتمي لها، فيُصَوّرُ هؤلاء العلماء والدعاة في ذهن الشاب أنهم علماء سلاطين، وعُبّاد مناصب، وطُلاّبُ مال، في دأَبٍ عجيب على طمسِ عشراتِ السنين بذلها هؤلاء العلماءُ والدعاة في تعليم الناس ودعوتهم، وإن وجدوا زلةً هنا أو هناك ضخّموها وأشهروها؛ في شحنٍ متواصل لتحطيم هذه الرموز في عقل هذا الشاب حتى تتهاوى تلك الرموزُ أمامَ عينيه، فبدلاً من بقاء هيبة التقدير والإجلال اللائق بهم، تتحطم هذه الصورةُ لينتقل ذهنُه مباشرةً إلى الطرف الآخر، ليكون مشاركاً في هذه الحملة بنفسه، وتبدأ معها رحلةُ البحث عن رموزٍ أخرى ـ إذْ لا بد له من ذلك ـ فأين هذه الرموز؟ وما صفاتهم؟

هنا يبدأ الدواعش ـ وأشباههم من الغلاة ـ في طرح "نماذج مُلْهِمة" للشاب، ورموزٍ منتقاة بعناية، تلتقي مع روح الشاب المحطّمة، التي صارت تلهث للبحث عن رمزٍ تَقتدي به بعد سقوط رموز بلده من ذهنه، فيُظهرها التنظيم في صورةِ مجاهدٍ، فارق أهلَه وولدَه ووطنَه من أجل إعلاء كلمة الله! وضحّى بدنياه الزائلة! ثم يحرصُ هؤلاء على إبراز الصورة الرمزية التي يظهر بها هؤلاء القدوات الجدد، فهو يظهر بلباسٍ خاص ـ عمامة وقميص وإزار ـ، وشعرٍ طويل، يحمل السلاح، وربما وضعه خلفه، في صورةٍ تجعله يتصور الفاتحين الأوائل ـ وهذا مقصودٌ منهم ـ، ليرسّخ في ذهنه أن هؤلاء هم القدوات الحقيقية الذين يجب التأسي بهم، واللحاقُ بهم، وأنهم في غاية الطُّهر والنقاء! بخلاف القدوات الأولى التي كان يحترمها، فهي عنده غارقةٌ في الفساد، ومنغمسةٌ في الدنيا، يجب إسقاطها فضلاً عن أن تكون محلّ تأسٍ واقتداء!

إن تحطيم الرموز الشرعية لا يعود ضررُه على الشاب وحده، بل على الأمة كلها؛ لأن هذا يعني باختصار: استيراد "رموز مجهولةٍ" لا يُعْرفُ تاريخها، ولا سابقتُها في علمٍ ولا جهادٍ صحيح، بل قد تكون تابعةً لاستخبارات أجنبية موجّهة ضد بلده ودينه التي خرج منها، وحينها لا تسلْ عن الآثار المدمّرة لعقل هذا الشاب ووعيه، فهل أدركتَ ـ أخي الشاب ـ كيف يخطط الغلاةُ لاختطاف عقلك؟  وجَعْلِكَ في خندقٍ بعيدٍ عن الرموز الحقيقة التي عرفها الناسُ بعلمها ودعوتها؟ لتكون في محضنِ وتوجيهِ أناسٍ لا يمكن أن تَكتب عن أحدهم ربعَ صفحة تعرّفك بحاله وشخصيته، بل أقصى ما تعرفه لقبٌ وكنيةٌ وشاب حديث السنّ، لم تعركه التجارب، ولم يرسخ في علم، فهل تجعل دينك وحياتك رهناً لهؤلاء؟ وقد قال السلف: "إن هذا العلم دِين، فانظروا عمّن تأخذون دينَكم"([3]).



([1]) بروتوكولات حكماء صهيون (ص: 187).

([2])  ميزان الاعتدال (3/ 275).

([3]) انظر: سير أعلام النبلاء. ط الرسالة (4/ 611)، (5/ 343).

  • الكلمات الدالة
20048 زائر
5 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات
امة الله
يا شيخ انتم من تركتمونا لهؤلاء بسكوتكم في كثير من المواقف والامور خاصة مسائل السياسه الشرعيه والحكم بما انزل الله وبيان حال الحكام وضحو لنا الامور وتكلمو فيها علنا فلم يعد مجال للسكوت والخفاء بما عندكم من علم وردو علي الشبهات التي يلقيها علينا هؤلاء ودافعو عن انفسكم ومنهجكم
حسين الجنزوري
جُزيتم خيرا على هذا المقال الرائع، وجنب الأمة شر هذه الفرق الضالة التي تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية واسمح لي شيخي هناك من العلماء من وضعوا أنفسهم في موضع الإتهام وأصدروا الفتاوى التي بها قد استحلت الدماء وهتكت الأعراض ونهبت الأموال ، جازفوا بأنفسهم وبتاريخهم الدعوي وقبل ذلك بدينهم بسبب فتاوى تم تفصيلها لنصرة الباطل وأهله ..، شيخنا الكريم ربما مقالك هذا ينطبق على علماء الحرمين وما لهم من فضل على الأمة ولكن فضلاً انظر حولك في بلاد الإسلام في مصر والعراق وسوريا واليمن تجد رموزاً في تلك البلاد تسمى علماء ويرأسون أعلى هيئات إسلامية في بلادهم كالأزهر مثلاً ، استمع الى فتاويهم والى مقالاتهم والى لقاءاتهم وهم يدعمون الظلم والطغيان ويعطون للقاتل غطاءً شرعياً لمزيد من القتل حتى بعض ادعياء الدعوة السلفية النقية سقطوا في هذا المستنقع ولا أريد ذكر اسماء حتى يكون الكلام عاماً لذا فضلا شيخنا الشباب يحتاج منكم الى تعريف العالم الحقيقي الرباني الذي يلتفون حوله حتى لا يلتفوا ويتجهوا إلى الإفراط أو التفريط جزاكم الله خيرا ونفع بكم
رياض بن محمد البكور
جزاك الله عن شباب المسلمين كل خير وبارك الله في دينك وعقلك ولسانك وقلمك فلقد صدقت في كل كلمة قلتها عن داعش المجرمة الخارجة الظالمة التي خربت الجهاد الشامي وكادت أن تجهضه لولا أن وفق الله بعض المصلحين لتحذير الشباب منها ومن جرائمها ومن اعلامها الهوليودي المدمر