تعلمت من ابن عثيمين (3)

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-03-18 14:57:16

تعلمت من ابن عثيمين(3)

المعْلمُ الثالث([1]): العناية بالقرآن حفظاً وفهماً وعملاً:

في بدايات ما يُعرف بـ"الصحوة" في أوائل القرن الهجري الحالي، كانت العناية بالحديث الشريف تحقيقاً ونشراً وحفظاً قد بلغت غايتها، بعد عقود وربما قرون من الركود العلمي العام، وفي الحديث بشكل أخص، وكان من مظاهر ذلك: إقبال عددٍ كبير من طلاب العلم على هذا التخصص، هذا الإقبال كان عند كثيرين على حساب الاهتمام بالقرآن الكريم من حيث الفهم والتدبر، فكان شيخنا يلحظ ذلك في الجو العام لعموم الحركة العلمية في ذلك الوقت، ويلحظه في عدد من طلاب العلم الذين قصدوه من آفاق شتى، وكانوا يحضرون دروسه.    

هذه الملاحظة المستمرة جعلتْ شيخَنا لا يفوّت التنبيه على العناية بالأصل الأعظم للدِّين، ومن تلكم الكلمات التي لا أزال أتذكرها: تلك المقابلة التي أُجريَت مع شيخنا ـ رحمه الله ـ ضمن سلسلة "على طريق الدعوة" ـ قبل عشرين سنة أو أكثر، وكان من أبرز ما رسخ في ذهني كلامُه عن هذه المسألة بشكل يلمس منه السامعُ خوفَه من اختلال الميزان عند بعض طلبة العلم، حيث تجده يُمضي الأيام والسنين في علم الحديث، ثم إذا جاء القرآن وجدتَه مقصِّراً في مدارسة معانيه، وتدبر آياته! وكان شيخنا قد أبدى فرَحَه بتلك العناية بالسنة، لكنه لم يُخف ألمه من التقصير في جانب العناية بتفسير كلام الله وتدبره.

وأما عنايته وتوجيهه طلابَ العلم لتدبره؛ فكُتبه وتوجيهاته طافحةٌ بهذا، وأنتَ حين تقرؤها تجدها كلماتٍ فيها روحٌ، ونابعةٌ من قلب مجرّب، قد تكون قصيرة، وسهلة في تراكيبها، لكنك تلمس فيها لغة الصدق والنصح، كقوله: "اللهَ الله يا إخوان! بتدبر القرآن وتفهم معانيه، والتقرب إلى الله تعالى به، والعمل بما فيه، فهو ـ والله ـ سعادتكم في الدنيا والآخرة"ا.هـ.

ويلحظ طالبُ العلم هذا المعنى حاضراً في تعليقاته على الآيات، سواء فيما قصد به تفسير كتاب الله، أو كان ضمن كتابٍ مصنَّف وردت فيه آيةٌ من الآيات، ومن ذلك حين علّق على قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾[القمر: 22]، قال: "أي: يسّر معانيه لمن تدبّره، ويسّر ألفاظه لمن حفظه، فإذا اتجهتَ اتجاهاً سليماً للقرآن للحفظ يسّره الله عليك، وإذا اتجهتَ اتجاهاً حقيقيًّا إلى التدبر وتفهم المعاني يسّره الله عليك ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ و(هل) للتشويق، يشوقنا الله - عز وجل - إلى أن ندكر القرآن فنتعظ به، جعلنا الله ممن يتلونه حق تلاوته لفظاً ومعنى وعملاً، إنه على كل شيء قدير"([2]).

وهذه العناية بهذا الأصل العظيم، ظهر أثرُها على تفسيره لما تيسر من القرآن، وعلى فتاواه، وكلماته، فضلاً عما كان عليه شيخنُا من ملازمة ورده اليومي، فقد كان يختم كل عشرة أيام في غير أيام المواسم، وفي رمضان يختم كل ثلاث.

 

ومن صور عنايته بهذا الأصل العظيم: أنه كان إذا دُعي لبعض المناسبات طلب من أحد الحضور أن يقرأ آيات من القرآن ثم علّق عليها، وهكذا دأبه في لقائه الأسبوعي، فإن تعليقَه على جزء عمّ المطبوع، إنما هو مِن جمْع ما قاله في تلك المجالس، فخرج منها ذلك الكتاب الذي نفع اللهُ به نفعاً كثيراً.

إن هذا المنهج العملي الذي سلكه شيخنا ـ رحمه الله ـ في دروسه وعموم المناسبات التي يحضرها، كان له أثرٌ على كثير ممن تلقّى عنه، في العناية بالقرآن، مع اختلاف تخصصاتهم الأكاديمية، أو مناصبهم الوظيفية، ولنِعْم الإرث هذا.

وخليق بطلاب العلم ـ مهما كان تخصصهم الأكاديمي الدقيق ـ أن يكون لهم نصيبٌ كبيرٌ من العناية بكتاب الله، فهو أصلُ العلوم ومنجمها، وأُسّها وأساسها.

وإن مما يُزري بطالب العلم: أن يكون مقصراً في حق القرآن تلاوةً وفَهماً، بحجة أن تخصصه ليس في "قسم القرآن"، أو "القراءات"! فالقرآن كتابٌ يتجاوز كل التخصصات. وللحديث صلةٌ إن شاء الله.



([1]) أشرتُ في الجزئين الأول والثاني من هذه السلسلة إلى معلمين من معالم التميز في شخصية شيخنا ـ رحمه الله ـ وهما: "وضوح الهدف" ، "الثبات على المنهج والهدف الذي رسمه لنفسه"، وأتابع في هذا المقال ذِكر بعض تلكم المعالم.

([2]) تفسير العثيمين: الحجرات - الحديد (ص: 284).

  • الكلمات الدالة
7366 زائر
0 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات