مشغول !

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-03-18 01:16:10

مشغول!

يبدو أن هذه الكلمة مِن أكثر الكلمات التي نسمعها ممن يُطْلبُ منهم عملٌ ما!

ومن المؤكد أن بعضَهم كذلك، إلا أن مما يدعو إلى الدهشة أن يفاجئك طفلٌ في المرحلة الابتدائية ـ عندما تطلب منه عملاً أو تعاتبه على تقصيره ـ فيقول: أنا مشغولٌ!

الانشغالُ الحقيقيُّ المثمر علامةٌ حيويةٌ ودَأَبٍ، والإنسان بطبعه "همّام"، بل التوقف علامة مرَض، لكن هل هذه الكلمة تُقال في موضعها؟ أم هي كلمة نعبِّر بها ـ أحياناً ـ عن هروبنا من تحمّل المسؤولية أو العمل الذي يُراد مِنّا فعله وتنفيذه؟

الواقع أن أكثر الناس لديه وقتُ فراغٍ كثير، ويعيش "فوضى منظّمة"، والقليل منهم من يرتبط بأعمال تستهلك أكثرَ وقته، ولا أظن أنني بحاجة لذِكر الشواهد على هذا.

والسبب في انتشار هذه "الفوضى المنظمة" ـ في تقديري ـ هو: غيابُ الأهداف الواضحة عند كثيرٍ من الناس، وأعني بها الأهداف الواضحة للإنسان في هذه الحياة، الأهداف التي تنقل الإنسانَ مِن السلبية إلى الإيجابية والتأثير، ومِن الفوضى إلى الترتيب.

ومِن البدهي ـ الذي لا يحتاج لتقرير ـ أن الناس تتفاوت هِممُهم، وتتباين أهدافهم وقدراتهم، لكن من المؤكد أن كثيراً منهم يستطيع أن يكون رقماً مؤثراً ولو تأثيراً قليلاً، المهم أن يطرد عنه الكسلَ، والانشغالَ الموهوم، وإلى هذا يشير قوله صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث الذي رواه البخاري ـ: "طوبى لعبدٍ آخذٍ بعَنان فرَسه في سبيل الله، أشعثٌ رأسه، مغبرةٌ قدَمَاه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة"([1])، فهذا رجلٌ قد لا يُؤبَه له، لكنه شخصٌ مؤثِّر، وحيثما وُضِع نَفَع.

ومِن الأجدر بالعاقل أن يراجع ترديده لكلمة "مشغول"، وأين تقع هذه الكلمة في خارطة حياته (الجادّة)؟ وكم سيضيف ترديدُ هذه الكلمة إلى رصيده من المنجزات بعد عشرات السنوات؟!

وثمة نوعٌ من الشغلِ لهجتْ به ألسنةُ السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ وهو شغل القلب واللسان بما يصلحهما، كقول ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «إنما هذه القلوب أوعية، فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره»([2]).

ويقول جعفر بن محمد: «إياكم والخصومة في الدين؛ فإنها تَشغل القلبَ، وتُورث النفاق»([3]).

ومِن توفيق الله لعبده أن يوفِّقه لنوع من أشرف معاني هذا "الانشغال"، وهو: أن ينشغل العبد بعيوبه عن عيوب غيره، ولسانُ حالِه يقول: إن في النفس لشُغْلاً عن الناس.

والويل لمن ابتُلي بالانشغال بعيوب الناس عن عيب نفسه، أو انشغل بباطلٍ من القول أو العمل، يجد غِبّه إذا انتقل عن هذه الدار.

ولنختم هذه الأسطر بكلمةٍ معبّرة رغم قِصَر كلماتها، تلك هي التي لخّصها الإمام عبدالرحمن بن مهدي (198هـ) واصفاً حالَ شيخه المحدث الجليل حماد بن سلمة (167هـ): لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غداً؛ ما قَدِرَ أن يزيد في العمل شيئاً!([4])

اللهم فأملأ قلوبَنا بك فرحاً، وألسنَتنا لك ذِكراً، وجوارحَنا فيما يرضيك شُغلاً.



([1]) البخاري ح(2887).

([2])  مصنف ابن أبي شيبة (6/ 126).

([3])  الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 526).

([4]) ويعني بذلك عمل البدن، أما عبادات القلب فلا حدّ لها.

  • الكلمات الدالة
9591 زائر
2 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات
رائد الدرة
جزاك الله خيرا لفتة موفقة زادك الله توفيقا