حرب غزة والحقائق القرآنية([1])
الحمد لله حمداً يملأ الدنيا والآخرة، ويسعُ السماوات والأرض وما بينهما، فالحمد لله حَمْداً مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله، القائل في محكم تنزيله: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾[النساء: 84]، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه وكفى بالله شهيداً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً أما بعد:
ففي شهر رمضان المبارك، يُقبل الناسُ على قراءة القرآن الكريم، وأسعدُ هؤلاء الناس من يتخرج في رمضان بأكبر قدر ممكن من معرفة "حقائق القرآن" التي تُطلع العبدَ على حقائق الدنيا والآخرة، وتجعله يبصر ما حوله بل ما أمامه على نور من الله، لكن هذا مشروط بشرط واحدٍ، ألا وهو: انكسار الأقفال التي على القلوب، التي تحجب القلبَ عن فهم حقائق القرآن، قال سبحانه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[محمد: 24] "فلو رفعت الأقفال عن القلوب لباشرتها حقائقُ القرآن، واستنارت فيها مصابيح الإيمان، وعلمت علماً ضرورياً يكون عندها كسائر الأمور الوجدانية - من الفرح، والألم، والحب، والخوف- أنه من عند الله، تكلم به حقاً، وبلّغه رسوله جبريل عنه إلى رسوله محمد؛ فهذا الشاهد في القلب من أعظم الشواهد"([2])، يقال هذا ونحن بين يدي حدَثين مهمين:
الحدث الأول: انقضاء شهر رمضان، الذي يجب على كل ناصح لنفسه أن يتساءل عن هذه الحقيقة: ماذا أحدث فيّ رمضان؟ وماذا غيّر فيّ القرآن؟ وما الفضائل التي زادت عندي بعد رمضان؟ والنقائص والصفات الرديئة التي تخلّصتُ منها بعد هذه المدرسة الإيمانية العظيمة؟
تأملوا هذه القصة القصيرة المعبّرة ـ يا عباد الله ـ: قيل لعيسى بن وردان ـ رحمه الله، وكان يتنفس تنفساً شديداً ـ: ما غاية شهوتك من الدنيا؟ فبكى، ثم قال: «أشتهي أن ينفرج لي عن صدري، فأنظر إلى قلبي، ماذا صنع القرآنُ فيه وما نكأ»!
إنه نموذج لمحاسبة النفس على تتبع الأثر قبل أن تعثر القدَمُ!
أما الحدث الثاني: فهو الحدث الذي سيطر على حديث وسائل الإعلام العالمية، وهو ما يجري على الأرض المباركة في حربٍ جديدة لا تخرج عن حقائق القرآن لمن تدبره، ولمن تأمل في هذه الأحداث الحالية، فلننظر أين نجد إجابات القرآن في هذه الحرب التي لا زلنا نعيش أحداثها؟ وكيف نتلمس حقائق القرآن الثابتة في هذه الحرب، بعيداً عن التجاذبات السياسية والدولية المتقلّبة!!
الحقيقة الأولى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾[المائدة: 82].
ولن يجد المؤمن كلفةً في تفهّم هذه الحقيقة في تاريخ اليهود المعاصر فقط، فضلاً عن تاريخهم الغابر منذ بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم! وحين يفتخر جندي يهودي قبل أيام بأنه قتل ثلاثة عشر طفلاً فلسطينياً؛ ستدرك هذه الحقيقة بلا عناء.
الحقيقة الثانية: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين﴾[المائدة: 64].
والمعنى "كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها، وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها؛ يبطلها الله ويرد كيدَهم عليهم، ويحيق مكرهم السيئ بهم"([3]).
وهذه الحرب الأخيرة نموذج واضح في تجلي هذه الحقيقة، فلقد ظن اليهود وأعوانهم أن مسلمي فلسطين شعبٌ يمكن تجويعه، وقهره، وإذلاله بأساليب الحصار، فإذا به يكون أقوى ما كان طوال سنوات الجهاد والرباط والمقاومة منذ ذلك العام الذي مهّد فيه الغرب لاحتلال أرض الإسراء والمعراج، عام 1948م! ويتضح هذا المعنى أكثر بتأمل:
الحقيقة القرآنية الثالثة:
﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 216].
لقد ذاق الفلسطينيون -والغزاويون تحديداً- الأمرّين من الحصار الظالم الذي فُرض عليهم ابتداءً منذ عام 2006م، وتبعه الحصار الكلي 2007م فقرر الفلسطيني في غزة أن ينحاز كلياً لمبدأ المقاومة، أما الإنجاز الأكبر فهو التغيير الذي حدث في معنى الحياة عند الإنسان الغزاوي، إذ إن ثقافة «الشهادة طريق الحياة» هي التي هيمنت على التشكيل النفسي له، لم يعد الخوفُ على الحياة أو الرزق أو المال هاجساً عند الإنسان الفلسطيني في هذه البقعة..بل لقد صار الناس يتنافسون في غزة على تكوين تاريخهم بأعداد الشهداء، فهم يعتبرون أي أثر للشهيد إنما هو كنز وثروة للأسرة وتاريخها..! لقد أصبح شعبُ غزة اليوم شعباً جديداً، لقد نزع معنى الخوف من نفسه واستبدله بالإرادة والشجاعة والصلابة والصبر والأمل بالله.. فخرج منه جيلٌ تربى في واقعٍ صعب وشديد، مع استضعاف من القريب والبعيد، فأيقن هؤلاء أن هذا طريق التمكين بإذن الله، وبداية التمهيد لطرد العدو المحتلّ.. ومن ثمّ انتقل العمل العسكري إلى أساليب نوعية عالية، ومن تابع أخبار القتال في هذه الحرب الأخيرة عرف مقدار التقدم التقني الذي أدهش العالم في الإنسان الفلسطيني، رغم الحصار والتجويع!!
يوضّح ما سبق:
الحقيقة القرآنية الرابعة في هذه الأحداث: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾[القصص: 5] فالقرآن صريح، والتاريخ شاهد بأن التمكين لا يمكن أن ينتج في بيئات المترفين، المنغمسين في اللذات والشهوات! بل لا يمكن أن يقوم إلا على أيدي أناس يسترخصون الموت في سبيل الله، ويعشقونه كما يعشق عدوهم الحياةَ، ولا يتحقق التمكين إلا على أيدي مَنْ: ﴿لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا﴾[القصص: 83]، فهم أهل الاستخلاف الحق، كما قال موسى لقومه: ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾[الأعراف: 128، 129].
فلن تتحرر فلسطين، ولن يتطهر الأقصى المبارك من رجس يهود على أيدي من خانوا القضية، أو وضعوا مصالحهم الشخصية والسياسية قبل مصلحة هذه القضية.
القدس وفلسطين لن يحررها إلا المتقون..إلا المتوضئون..إلا من تربوا على أيدي آيات الجهاد في سبيل الله، والتعلق بالله وحده دون سواه.
القدس وفلسطين لن يحررها إلا: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾[الحج: 41].
القدس وفلسطين لن يتحقق فيها وعْدُ الله إلا على يد من اتصفوا بصفةٍ واحدة فقط ذكرتها آيةُ الإسراء، وهي صفة العبودية: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾[الإسراء: 5] فهم عباد لله، لا عبيد للشرق والغرب!! ولا عبيد لأجندة سياسية وتدار من بعيد بما يحقق لليهود الاستقرار والأمن!
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
الخطبة الثانية
الحمد لله، ... أما بعد:
فمن الحقائق القرآنية التي تجلّت في هذه الحرب وهي:
الحقيقة الخامسة: أن حقيقة الانتصار هي انتصار المبدأ الحقّ، والصبر عليه أمام العدو، وإن أثخن العدو فيه الجراح، فإن الألم موجود في الطرفين، كما قال الله: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[النساء: 104]، إلا أن أناساً عميت بصائرهم عن حقائق القرآن، فقاسوا الانتصار في الحرب بعدد من يُقتل من الطرفين، والقرآن يُبطل هذا الفهم، فإن الله وصف إحراق أصحاب الأخدود عن بكرة أبيهم: بالفوز الكبير.
وقال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ﴾ ـ وفي قراءة(وهي الشاهد): قُتل ـ ﴿مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾[آل عمران: 146].
ويأتي بعضُ الجهال -وبعضهم من صهاينة العرب- ليتحدث بكل وقاحة، متجرداً من كل مروءة ليشمت بالمجاهدين من أهل الرباط، وليقف صفاً واحداً مع الصهاينة المعتدين، فصار من حيث يشعر أو لا يشعر ردءاً لليهود على المسلمين، ووالله الذي لا يحلف إلا به إن الإنسان لا يكاد يصدق ما يقرأ ويسمع!! أيُعقل أن يوجد عربي أو مسلم يرحّب ويشكر اليهود على ضربهم للمسلمين في غزة؟!! إذا لم يكن ثمة دين فليكن حياء ومروءة عربية، ولكأن المسلم يقرأ في هذه الأحداث ما قاله أسلافهم من المنافقين الذين كانوا يسخرون من المتصدقين، واليوم أذنابهم يسخرون من أسلحة المجاهدين: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[التوبة: 79].
وصدق الله: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُم﴾[محمد: 29].
أيها المسلمون.. لقد كانت قضية فلسطين أول ما احتُلت قضية إسلامية، ثم اختُصرت لتكون عربية، ثم قُزّمت لتكون فلسطينية، ثم خُنقت لتكون غزاوية أو حمساوية، ودخلت دهاليز مؤامرات السلام التي أرادت إجهاض الحسّ الجهادي في هذه القضية، فأتاهم اللهُ من حيث لم يحتسبوا.
فلننتبه إلى كيد أعداء الإسلام في تحجيم القضية، ولنكن على وعي جيد بهذا، فقضية فلسطين قضية المسلمين، وحقُّ المرابطين في أرض الإسراء والمعراج أن نقف معهم بكل ما أوتينا من قوة، وأن ندعو لهم، وأن نجتهد في نصرة هذه القضية حتى يبعث الله عباداً له، يكتب الله على أيديهم طرد اليهود.
اللهم إنا نسألك يا حي يا قيوم .. يا من خسف بقارون، وغرّق فرعون.. يا من أرسلت الطير الأبابيل على من قصدوا بيتك الحرام، اللهم أرسل على يهود جنوداً من عندك تهزمهم وتمرغ أنوفهم بالتراب .. اللهم أرسل عليهم جنود الرعب...