اجتماع عائلي

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-03-18 01:08:41


اجتماعٌ عائلي

 

"لولا هذه الاجتماعات لما استطعتُ رؤيةَ أكثرَ أبناء العم من عائلتي"!

بهذه العبارة يصرِّح غير واحدٍ من أبناء الأُسَرِ الكريمة التي اعتادت ترتيب اجتماعٍ شهري أو فصلي أو نصف سنوي أو سنوي.

وهذه حقيقة مشاهدة، خاصة مع كثرة انشغال الناس بأعمالهم، وتفرقهم في المدن، وانهماكهم في وظائفهم وأعمالهم الخاصة.

إن هذه الاجتماعات صورةٌ من صور التواصل التي يحبها الله ورسوله، وهي ليست مجرد اجتماع على طعام، بل هي أَجلُّ وأكبر، ففيها صلةٌ للرحم، وتفقدٌ للمحتاج، وتقويةٌ لأواصر المحبة، وهيبة في نفوس الآخرين، وقد قال قوم شعيب له: ﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيز﴾[هود: 91]، علّق العلامة السعدي على هذه الآية بتعليق نفيس، فقال -في فوائد هذه الآية-: "ومنها: أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، قد يَعلمون بعضَها وقد لا يعلمون شيئاً منها، وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم أو أهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها بل ربما تعين ذلك؛ لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان"([1]).

لقد قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة وأهلُها يتشكّلون في تجمعات تُمَثّلُ قبائل كبرى ثم صغرى، وأقرّهم على ذلك، لما في الاجتماع والقرب من مصالح كثيرة لا تخفى.

وسُئل صلى الله عليه وسلم: أَمِنَ العصبية أن يحب الرجلُ قومَه؟ قال: ((لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم))([2]).

إن من المحزن أن ينشأ ناشئةٌ تختزل فوائد هذه الاجتماعات وآثارها الكبيرة في أنها مجرد اجتماع على "رز ولحم" أو "بوفيه مفتوحة"!!

إنها لسذاجة مفرطة، وتسطيح بالغ للفوائد الكثيرة التي تتحقق من جراء هذه الاجتماعات، والتي أذكر منها ما لمسته بنفسي، وهي على سبيل التمثيل لا الحصر:

1) تفقّد المحتاج من العائلة، فكم سُدِّدت من ديون، وقُضيت من حاجات، بل اشتُريت بيوت للفقراء من تلك الأُسَر.

2) إقامة وقف دائم للأسرة.

3) التنافس الشريف في مسابقات حفظ القرآن الكريم.

4) تشجيع التميز العلمي، بتكريم المتفوقين، والمتخرجين في الدراسات العليا (ماجستير، دكتوراه).

5) ما يحصل من وقفات جماعية في المناسبات التي تنغّص أو تَسُر، كالعزاء، ومناسبات الأفراح، وغيرها، ولا يدرك قيمة هذه الوقفة الاجتماعية إلا من فَقَدَ أمثال هذا النوع من التواصل.

 

إن على القائمين على أمثال هذه الملتقيات والاجتماعات أن يراعوا أموراً مهمة؛ لتحقق هذه الاجتماعات أُكُلَها، منها:

1) إخلاص النية، واحتساب الأجر في هذا العمل، فهو قُربة لله تعالى، بل صورة من صور الدعوة إلى الله تعالى.

2) تكوين مجلس استشاري لإدارة العمل، يكون أفراده متنوعي الاهتمامات، مختلفي التخصصات.

3) توزيع المهام بين أفراد الأسرة، فهذا أدعى للتميز، والاستمرار.

4) السعي لاكتشاف المواهب المتوارية في أفراد الأسرة، وإسناد الأمور التي يحسنونها إليهم.

5) تنويع وسائل التواصل، وتقسيمها بحسب الفئات العمرية: شباب، أطفال، نساء ... الخ.

6) تكريم العاملين في أعمال الأسرة في الاجتماع السنوي.

7) الاطلاع على تجارب الأُسر الأخرى؛ للإفادة منها في تطوير العمل داخل الأسرة.

 

وبالجملة، فإن من يحمل همّ دعوة أقاربه، فهو سائرٌ في طريقٍ من طرق الدعوة إلى الله، وسيواجه بعض المنغصّات في طريقه، وسيسمع نقداً مجحفاً، وتهويناً من عمله، واستنقاصاً لبعض جهوده، فليتدرّع بالتقوى والصبر، فالعاقبة له بإذن الله، وليتذكر تلك السنة الربانية التي أنطق الله بها نبيه يوسف عليه الصلاة والسلام: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[يوسف: 90].

وليستفد مما يبلغه من انتقاد، مهما كان القالب الذي صيغ به، فما كان صواباً أَخذ به، وما كان من خطأ أصمّ أذنيه عنه، وتذكّر وصايا الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع قومه، كقوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[الشعراء: 214، 215]، (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)[الحجر: 85]، (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ)[الزخرف: 89]، وليبشر بحسن العاقبة، في الدنيا والآخرة.

 

 



([1]) تفسير السعدي (ص: 389).

([2])  سنن ابن ماجه ح (3949)، وسنده حسن.

  • الكلمات الدالة
20289 زائر
10 | 0
المقال السابق

شهوة النشر

المقال التالى

مات المغرد الصالح


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات