شهوة النشر

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-03-18 01:08:30

شهوة النَّشر


في عام 1415هـ كتبتُ رسالةً تتضمن توجيهات للإخوة الذين تحت أيديهم عمّال وخَدَم، فلما فرغتُ منها؛ ظننتها لا تحتاج لكبير تصحيح ولا تعديل! فعرضتُ الرسالة على أحد إخوان الصدق والنصح، الذي سبقني علماً وسنّا وتجربةً في التأليف، فرجعتْ إليّ الرسالة بعدد غير قليل من الملاحظات، فحمدتُ الله أنني لم أخرجها.

وبعد عشرين سنةٍ بالضبط يتكرر الموقف، لكن هذه المرّة مع شابٍ حديثِ التخرّجِ في كلية الشريعة، دفعَ إليّ ما كَتب في تفسير بعض سور القرآن، فوجدتُ كتابته لائقةً بحداثة سنّه، وقلة تجربته، وفهمتُ منه أنه يريد النشر، مع خطورة هذا العلم الذي كتب فيه، والذي كان يُسميه بعض السلف: الرواية عن الله.

وأذكر أن أحد طلاب العلم كان يضع على صفحة الغلاف الأخير لكتبه، أسماء لبضع عشرة رسالة وكتاب، ما بين تأليف وتحقيق، وأضعافها تحت الطبع، وهو لم يزل طالباً يدرس في الكلية، فقلتُ حينها: هذا إذا بلغ الأربعين كم ستكون مؤلفاته؟!

إن هذه المواقف وغيرها، إنما هي شواهد على ما يمكن تسميته بشهوةٍ تعتري بعض طلاب العلم الذين يتعجّلون نشر ما يكتبون.

وإذا افترضنا سلامة المقصد تماماً -وما أعزّه!- فإن ثمةَ ما ينغّص على ذلك، ألا وهو أن التأليف في بواكير الطلب مظنّة كثرة الخطأ، والمعالجةِ السطحية للمسائل، وكثرةِ النقل الذي يُعوِزه التحرير، إلى غير ذلك من الآفات.

ولهذا نجد في بعض كتب التراجم نماذج لعلماء ندموا على بعض كتبهم، ويلاحظ أن هذه الكتب التي ندموا على إخراجها، وودّوا أنهم لم يستعجلوا في نشرها وبثّها بين الناس؛ كانت من بواكير إنتاجهم العلمي، ومن ذلك:

- أن المبرد ألّف كتاباً في الرد على سيبويه وعنونه بـ"مسائل الغلط"، ثم لما تقدمت به السنُّ اعتذر من ذلك وكتب في مقدمة كتابه "المقتضب": "هذا شيءٌ كنا رأيناه في أيام الحداثة، فأما الآن فلا"([1]).

- ما جاء في ترجمة الفقيه المالكي عبدالحق بن محمد الصقلي (466هـ) أنه ندم على أوّل كتابٍ ألّفه، وتغيرت نظرتُه إليه، فتولاه بالتغيير، ورجع عن كثير من اختياراته وتعليلاته، وكان يقول: لو قدرت على جمعه وإخفائه لفعلت!

- وأعجبُ منه أن بعض المتأخرين ألّف كتاباً، فندم على تأليفه، وعزم على أن يشتريه ممن لقيه عنده، ويحرقه بالنار!

إن هذه الأماني التي ذكرها هؤلاء المصنِّفون تحمل في طياتها رسالةً لطالب العلم الذي يتشوف للنشر في وقت مبكّر، قبل أن يستوي عُودُه في الباب الذي يَكتب فيه، ولم تكتمل آلتُه أو تُقارِب ذلك، تلكم الرسالة تنادي بالأناة والتريّث، وعدم التعجّل في النشر.

كما أن التعجل في النشر يشغل عن الإتقان، وضبط العلم، ويحتاج صاحبُه إلى مدافعة غائلة العُجْب أكثر من غيره.

وهذا كلّه لا يعني مَنْعَ أن يكتب طالبُ العلم ويجمَع! لكن هذا شيء والنشر شيء آخر، فإن من صنّف ونشر، "فقد جعل عقلَه على طبق يعرضه على الناس"، كما قال الخطيب البغدادي([2]) رحمه الله تعالى.

وقد جرّب بعضُ الناس طريقةً حَمِدَ عاقبتها كثيراً، وهي أنه لا يُقْدمُ على نشر شيء حتى يستشير فيه اثنين أو أكثر ممن عهد منهم النصح، والإتقان لذلك الفن أو الموضوع الذي يكتب فيه، حتى قال هذا الأخ: كم من بحثٍ ورسالةٍ تركتها، ولم أنشرها؛ امتثالاً لنصح إخواني، ولا أزال أعيد النظر، وأقلّبُه فيها على فترات متقطّعة، فأزداد حمْداً لربي، وشكراً لعيْبَةِ نصحي، الذي جعلني أتمهّل في النشر.

ولئن كان قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه))([3]) عاماً في كل شيء؛ فإنه في هذا الباب من أظهر ما يكون؛ لأن العلم أمانة، وروايةٌ عن صاحب الشرع، ومزلةُ قدم.

وقد أحسن القائل:

ولا تسبقـنّ النّاسَ بالرّأي واتّئد *** فـإنّك إنْ تَعْجَل إلى القولِ تـزللِ

ولكن تصفّح رأي مَنْ كان حاضراً *** وقل بعدهم رِسْلاً، وبالحقّ فاعملِ

"أما الاشتغال بالتأليف النافع لمن قامت أهليته، واستكمل أدواته، وتعددت معارفه، وتمرّس به بحثاً ومراجعة ومطالعة وجرداً لمطولاته، وحفظاً لمختصراته، واستذكاراً لمسائله، فهو من أفضل ما يقوم به النبلاء من الفضلاء"([4]).

ومهما يكن من أمر؛ فإن النيّة في جميع مراحل العُمُر، وعند الإقدام على النشر، واجبةُ المراعاة، حَريّةٌ بالتفقّد، كما أن تعاهدها بعد النشر من علامة التوفيق، فالكتاب كالولد، لا يزال بحاجة للتعاهد بالدعاء، فإن النية شَرود، والنفسُ ضعيفة، ولا يبقى إلا ما كان لله، والله المستعان.

 

 

 



([1]) ينظر: الخصائص (1/ 207).

([2]) سير أعلام النبلاء (18/ 281).

([3]) صحيح مسلم ح(2594).

([4]) حلية طالب العلم (ص: 199).

  • الكلمات الدالة
11395 زائر
0 | 0
المقال السابق

دمعة نبي

المقال التالى

اجتماع عائلي


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات
أبو مدين
أفدت وأجدت، أحسن الله إليكم