القول عند المعتبة

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2015-03-18 01:01:24

القولُ عند المَعْتَبَة

 

حين يحدِّثك أحدٌ عن قصته مع عظيم؛ فستجد أنك تنصت له، فكيف إذا كان هذا العظيم الذي يحدثك عنه هو سيد ولد آدم، ليجلي لك في حديثه صورةً مِن صور عظمة أخلاق هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم؟! فلا بد أن تُنصت!

لنستمع لأنس رضي الله ـ الذي خدمَ النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين ـ وهو يقول: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً، ولا لعاناً، ولا سباباً، كان يقول لأحدنا عند المَعْتَبَة - أي: عند اللوم -: «ما لَهُ تَرِبَ جبينُه!»([1]).

ويقول - أيضاً -: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أف، ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت؟([2])

فتأمل! هذا خادم، وصغير السن، فقد بدأ خدمة النبي صلى الله عليه وسلم حين كان عمره عشر سنين، وكلاهما - صغر السن والخدمة - مظنةُ الخطأ المتكرر، ومع هذا فلا يسمع منه أنسٌ طيلة السنوات العشر ولا كلمة (اُفٍّ)! بل كان يقول - إذا وُجد ما يوجب العتب -: «ما لَهُ تَرِبَ جبينُه!»، ومن كان كذلك فهو أبعد ما يكون عن اللعن والسبّ صلوات الله وسلامه عليه.

إنه هديٌ نبوي عظيم ومنهجٌ في التعامل مع من تربطنا بهم علاقات اجتماعية، وصداقات قوية؛ في توقي العتاب ما استطعنا، فإن وجد سببه فليكن برفقٍ ولين.

وإذا عتبتَ على امرئٍ أحْبَبْتَه ... فتَوَقّ ظاهرَ عيبِه وسِبابِه

وما حكاه أنس رضي الله عنه إنما هو ترجمة عملية منه صلى الله عليه وسلم لقول الله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء: 53]، ولقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[البقرة: 83] وفي قراءة سبعية: {حَسَنًا}، فحُسْنُ المنطق هو أول اًلضمانات للسلامة من جرح اللسان، وعثرة الكلام، فالكلام إذا خرج "لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على رد شوارده"([3]).

وهذا الإمام ابن الجوزي (ت: 597هـ) يصف ما مرّ به من تجربةٍ شخصية، فيقول:

"كان لنا أصدقاءُ وإخوانٌ أعتدُّ بهم؛ فرأيت منهم من الجفاء وترك شروطِ الصداقةِ والأخوّة عجائب! فأخذت أعتبُ، ثم انتبهت لنفسي، فقلت: وما ينفع العتاب؟! فإنهم إن صلحوا فللعتاب لا للصفاء! فهممت بمقاطعتهم! ثم تفكرت؛ فرأيت الناس بين مَعارف وأصدقاء في الظاهر، وإخوة مباطنين، فقلت: لا تصلح مقاطعتهم؛ إنما ينبغي أن تنقلهم من ديوان الأخوة إلى ديوان الصداقة الظاهرة، فإن لم يصلحوا لها نقلتهم إلى جملة المعارف، وعاملتهم معاملة المعارف، ومن الغلط أن تعاتبهم"([4]).

هكذا يصف ابن الجوزي (ت: 597) أصدقاء زمانه، فهل تغير الأمر؟!

الحقيقة أن الطبيعة البشرية في مثل هذه الأمور لا يغيّرها الزمان كثيراً، بيْد أن المؤمن بقدر ما يحرص على فهم سنن الله في الأفراد وفي قسمة الأرزاق، إلا أنه يحرص أكثر على تلمّس هدي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كمّله الله في خَلْقه وخُلقه، وهو الذي عاشر من الناس أصنافاً، وواجه من الطبائع ألواناً، ولقي ما لقي صلى الله عليه وسلم من القريب والبعيد.

ومن المعلوم أن العلاقات الاجتماعية - على اختلاف مستوياتها - لا تخلو من مواقف يقع فيها الخطأ الذي هو صفة ملازمة للبشر - كإخلاف موعد، أو تقصير في حق، أو تخلف عن مناسبةٍ لا ينبغي من مثله تركُها، ونحو ذلك - وهذا القدر مفهوم ومعلوم، لكن الإشكال في طريقة التعامل مع هذا الخطأ!

فكم من علاقاتٍ قديمة، وعِشْرةٍ طويلةٍ؛ هدمها سوءُ تعبير، أو كلمةٌ جارحة! جعلت ترميم العلاقة - بعد ذلك - صعباً، وإن عادت ففي الجدار شرخٌ كان يمكن تفاديه لو تلمّسنا الهدي النبوي في المعالجة الاستباقية لكيفية التعامل مع هذا النوع من المواقف، فكيف كان هديه صلى الله عليه وسلم؟

وقبل أن تبدأ قصة العتاب، فمن الجميل أن نتذكر أموراً:

أولها: أن الكمال في الصداقة - مهما بلغت في العمق والقوة - لا تخلو من شيء يوجب العتاب، فلو هجر الصديقُ صديقَه لهفوةٍ بدرت منه؛ فلن يبقى له صديق:

ولستَ بمستبْقٍ أخاً لا تلمُّه *** على شعثٍ، أيُّ الرجال المهذبُ؟!

وقد عبّر عن هذا المعنى بشار بن بُرد، فقال:

إذا كنتَ في كلِّ الأمورِ مُعاتباً *** صديقكَ لم تلقَ الَّذي لا تُعاتبُهْ

فعِشْ واحداً أو صلْ – صديقك - إنَّهُ *** مُقارفُ ذنبٍ مرَّةً ومُجانبُهْ

إذا أنتَ لمْ تشربْ مِراراً علَى القذى *** ظمئتَ وأيُّ النَّاس تصفو مشاربُهْ

"وإذا كان الصفح عن الزلات من أفضل خصال الحمد؛ فأحق الناس بأن تتغاضى عن هفواتهم رجالٌ عرفت منهم المودة، ولم يقم لديك شاهد على أنهم صرفوا قلوبَهم عنها"([5]).

وما زال التغافل - فيما لا يترتب عليه مفسدة - من شيم الكرام، فلقد كان صلى الله عليه وسلم يتغافل عن حماقات الكفار والمنافقين وسفاهاتهم، فخليق بأن يطبِّق هذا مع المسلم، فضلاً عن صديق أو مَن توثقت به صلتك، فالكمال عزيز، ولن تجد مَن تخالط إلا وفيه ما يصفو وما يُكّدر. قال عثمان بن زائدة: قلت للإمام أحمد: العافية عشرة أجزاء تسعة، منها في التغافل، فقال: "العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل"([6]).

ثانيها: أن نحاول الإجابة عن بعض الأسئلة قبل بدء العتاب: متى أعاتب؟ وكيف؟ وماذا بعد العتاب؟

أما متى؟ فالعتاب ينبغي أن يكون في أضيق الدوائر، وأن يكون بقدرٍ معقول؛ حتى لا يحصل عكس مقصوده، كما قال علي رضي الله عنه: "لا تُكثِر العتاب؛ فإن العتاب يورث الضغينة والبغضة، وكثرته من سوء الأدب"([7])، ولأن "كثرةَ العتاب سببٌ للقطيعة، واطراحَ جميِعه دليلٌ على قلة الاكتراث بأمر الصديق"([8])، وفي قصة أنس السابقة مع النبي صلى الله عليه وسلم أبلغ شاهد.

وألنْ جَنَاحَكَ مَا استلان لِودّهِ *** وأجبْ أخاك إذا دعا بجوابه

أما كيف أعاتب؟ فما أجملَ التلطفَ في العتاب، واللينَ في العبارة! كما سبق الإشارة إليه.

وماذا بعد العتاب؟ وهو سؤال مهم يجب تأمله قبل إلقاء اللوم والمعتبة، فإن بقاءَ الصديقِ الصدوق، كثيرِ الفضائل على علةٍ فيه؛ خير من خسارته بسبب عتاب قد لا يحتمله، أو يفهمه على غير وجهه، وقد قيل: تناس مساوئ الإخوان؛ يَدُمْ لك وُدُّهم.

"والقول الفصل في هذا: أن ما يصدر من الصديق:

إن كان من قبيل العثرة التي تقع في حال غفلة، أو خطأ في اجتهاد الرأي؛ فذلك موضع الصفح والتجاوز، ولا ينبغي أن يكون له في نقض الصداقة أثر كثير أو قليل.

أما إن كان عن زهد في الصحبة، وانصرافاً عن الصداقة؛ فلك أن تزهد في صحبته، وتقطع النظر عن صداقته"([9]).

وبالجملة: فغنيمة الأصدقاء الصالحين لا تتوقف عند الحياة، بل هي ممتدة إلى يوم الدين: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف: 67].



([1]) البخاري ح(6031).

([2]) البخاري ح(6038).

([3]) أدب الدنيا والدين (442) بتصرف.

([4]) صيد الخاطر (391) ، وكلمة ابن الجوزي الأخيرة "ومن الغلط أن تعاتبهم" ليست على إطلاقها كما سيتضح بعد قليل.

([5]) الصداقة، ضمن موسوعة مؤلفات العلامة محمد الخضر حسين (4/1857).

([6])الآداب الشرعية (2/20).

([7]) روضة العقلاء (182).

([8]) أدب الدنيا والدين (178).

([9]) الصداقة، ضمن موسوعة مؤلفات العلامة محمد الخضر حسين (4/1858).

  • الكلمات الدالة
7058 زائر
1 | 0
المقال السابق

الغبن في التوكل

المقال التالى

روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات