أما الحديث الذي ذكرت "حبر العالم خير من الشهادة "، فلا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في هذا المعنى حديث: "يوزن يوم القيامة مداد العلماء على دم الشهداء، فيرجح مداد العلماء "، ولكنه حديث ضعيف جداً، بل حكم عليه بعض العلماء بالوضع، كما في كتاب (كشف الخفاء:2/262)للعجلوني.
وأما ما تذكره عن أبي هريرة رضي الله عنه، فلم أقف عليه باللفظ الذي ذكرت، ولكن روي عنه - بإسناد ضعيف جداً، كما رواه ابن عبد البر في(جامع بيان العلم وفضله: 1/121)- أنه قال: "باب من العلم تتعلمه، أحب إلينا من ألف ركعة تطوع".
ولكن لا يشك أحد من أهل العلم أن طلب العلم، والتفقه في الدين أفضل من جميع النوافل لمن صحت نيته فيه، لأن نفع العلم متعد، بخلاف العبادة فهي -في الغالب- نفعها قاصر على الشخص نفسه.
وأما الحديث الذي ذكرت من تفضيل الجهاد، فقد رواه البخاري ومسلم، ولا تعارض بين هذا الحديث وبين ما سبق؛لأن الحديث والأثر المذكورين لا يصحان كما سبق إيضاحه، ومع ذلك فالأدلة الدالة على فضل العلم والتعليم كثيرة لا تكاد تحصى، ولا تعارض- بحمد الله- بينها وبين هذا الحديث الذي فيه تفضيل الجهاد، لأمور:
الأول: أن هذا التفضيل قد يكون بالنسبة لأحوال دون أحوال، أي أنه في بعض الأحوال قد يكون الجهاد هو الأفضل لشدة الحاجة إليه، والقدرة عليه، كما أن التعليم والعلم قد يكون أفضل بل أوجب لغلبة الجهل في ذلك المكان بأمور الدين الضرورية.
الثاني: يجب أن ندرك جيداً أن الأمة الإسلامية بحاجة ماسة للأمرين: العلم والجهاد، بل لا يمكن أن تستقيم أمور الجهاد، ولا تنضبط مسيرته إلا بالعلم، ولهذا قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}(سورة التوبة:122).
وكذلك فإن الجهاد في سبيل الله جعله الله وسيلة عظمى لنشر الدين، وفتح البلاد، وإدخال الناس في دين الله أفواجا.
وأدنى نظرة تأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله القدوة المطلقة ـ تجعل هذا الأمر واضحا جليا، فلم يكن أحد من أصحابه يشعر باهتمامه بأحد الأمرين على حساب الآخر، فهو صلوات ربي وسلامه عليه العالم، المعلم، المجاهد، المربي، العابد، القانت لله في محرابه.
وإني لأعجب كيف يتجرأ أحد على تزهيد الناس بأحد الأمرين على حساب الآخر، وكلاهما من دين الله تعالى؟ ألم يقل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً}(سورة البقرة: 208)؟! أين هؤلاء من سيرة الأئمة الذين كانوا يتقاسمون خدمة الدين، ولم يكن أحد منهم يرمي الآخر أو يتهمه بقلة الغيرة، فهذا الإمام أحمد كان مقيما في بغداد مدة طويلة، والمجاهدون في الثغور يقاتلون الكفار، ويحمون البلاد، وكان كل منهم على خير! والمتأمل يجد أن الأمة تحتاج للعالم في كل شؤونها؛ في عباداتها ومعاملاتها وأحوالها الخاصة، وأطعمتها وألبستها،...إلخ، فهل يعقل أن ننادي الناس كلهم للنفير في الجهاد بناء على هذه الأحاديث التي سبق بعضها؟؟ هذا لا يقول به عاقل، فضلا عن مؤمن عرف الأدلة الشرعية!.
والحاصل أنه لا تنافر ولا تضاد، وكلا الأمرين مطلوب ومرغوب، وقد يكون أحد الأمرين في وقت أفضل منه في وقت، مع بقاء صفة الفضل في كل منهما. والله أعلم.
ارسال الفتوى