الفائدة الثالثة والثمانون:
موقف لا تقواه إلا النفوس الكبار ..!
قال ابن العربي في كتابه أحكام القرآن (1/ 248):
أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة: وصلت الفسطاط مرة، فجئت مجلس الشيخ أبي الفضل الجوهري، وحضرت كلامه على الناس، فكان مما قال في أول مجلس جلست إليه: إن النبي – صلى الله عبيه وسلم - طلق وظاهر وآلى! فلما خرج تبعتُه حتى بلغت معه إلى منزله في جماعة، فجلس معنا في الدهليز، وعرّفهم أمري، فإنه رأى إشارة الغربة ولم يعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه، فلما انفض عنه أكثرهم قال لي: أراك غريباً، هل لك من كلام؟ قلت: نعم، قال لجلسائه: أفرجوا له عن كلامه؛ فقاموا وبقيت وحدي معه، فقلت له: حضرتُ المجلسَ اليوم متبركاً بك، وسمعتك تقول: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت، وطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت، وقلت: وظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لم يكن، ولا يصح أن يكون؛ لأن الظهار منكر من القول وزور؛ وذلك لا يجوز أن يقع من النبي - صلى الله عليه وسلم -!
فضمني إلى نفسه وقبّل رأسي، وقال لي: أنا تائب من ذلك، جزاك الله عني من معلم خيراً.
ثم انقلبت عنه، وبكّرت إلى مجلسه في اليوم الثاني، فألفيته قد سبقني إلى الجامع، وجلس على المنبر، فلما دخلت من باب الجامع ورآني نادى بأعلى صوته: مرحباً بمعلمي؛ أفسحوا لمعلمي، فتطاولت الأعناق إلي، وحدّقت الأبصار نحوي، وتعرفني يا أبا بكر! - يشير إلى عظيم حيائه، فإنه كان إذا سلم عليه أحد أو فاجأه خجل لعظيم حيائه، واحمر حتى كأن وجهه طلي بجلنار قال -: وتبادر الناس إليّ يرفعونني على الأيدي ويتدافعوني حتى بلغت المنبر، وأنا لعظم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض! والجامع غاص بأهله، وأسال الحياء بدني عرقاً، وأقبل الشيخ على الخلق، فقال لهم: أنا معلمكم، وهذا معلمي! لما كان بالأمس قلت لكم: آلى رسول الله - صلى الله عبيه وسلم - وطلق، وظاهر؛ فما كان أحد منكم فقه عني ولا رد علي، فاتبعني إلى منزلي، وقال لي: كذا وكذا؛ وأعاد ما جرى بيني وبينه، وأنا تائب عن قولي بالأمس، وراجع عنه إلى الحق؛ فمن سمعه ممن حضر فلا يعوِّل عليه، ومن غاب فليبلغه من حضر، فجزاه الله خيراً، وجعل يحفل في الدعاء، والخلق يؤمِّنون.
علّق ابن العربي قائلاً:
فانظروا رحمكم الله إلى هذا الدين المتين، والاعتراف بالعلم لأهله على رءوس الملأِ من رجل ظهرت رياسته، واشتهرت نفاسته، لغريبٍ مجهول العين لا يعرف من هو ولا من أين! فاقتدوا به ترشدوا.