تدبر لا تفسير

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2014-06-27 09:44:00

تدبر لا تفسير

 

يكثر الحديث عن تدبر القرآن ـ وخصوصاً في هذه الأيام المباركة ـ وهو أمرٌ لا يختلف عليه اثنان من حيث أهميتُه ،وفضلُه ،وعظيمُ أثره على القلب ، إلا أن كثيراً من الناس يتوقف تفاعله مع هذا الموضوع عند حدِّ سماع أهميته وفضائله ؛ لأنه يشعر أن بينه وبين التدبر مفاوز ،ومسافات حتى يكون أهلاً لممارسته ،والتنعم بآثاره ،فهو يظن أنه لا بد من أن يكون على علمٍ بتفسير أي آية يتدبرها ! بل ربما خُيِّل إليه أنه لا يجوز الاقتراب من سياجه حتى يكون بمنزلة العالم المفسر الفلاني الذي يشار إليه بالبنان !

ولله ! كم حرم هذا الظن فئاماً من الناس من لذة التدبر ،وحلاوة التأمل في الكتاب العزيز ! وكم فات عليهم بسببه من خير عظيم !

ولا شك أن الدافع الذي منعهم من الاقتراب من روضة التدبر = دافعٌ شريف ،وهو الخوف من القول على الله بغير علمٍ ،ولكن الشأن هنا ،هل هذا الظن صحيح ،وتطبيقه في محله ؟

والجواب : ليس الأمر كذلك ،فإن دائرة التدبر أوسع وأرحب من دائرة التفسير ،ذلك أن فهم القرآن نوعان :

النوع الأول : فهمٌ ذهني معرفي .

والنوع الثاني : فهمٌ قلبي إيماني .

فالنوع الأول : وهو تفسير الغريب ،واستنباط الأحكام ،وأنواع الدلالات هو الذي يختص بأهل العلم ـ على تفاوت مراتبهم ـ وهم يَمْتَحون منه ،ويغترفون من علومه على قدر ما آتاهم الله تعالى من العلم والفهم ( فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) ،وليس هذا مراداً لنا هنا ،بل المراد هو الآتي ،وهو :

النوع الثاني : ـ وهو الفهم الإيماني القلبي ـ الذي ينتج عن تأملِ قارئ القرآن لما يمرُّ به من آيات كريمة ،يعرف معانيها ،ويفهم دلالاتها ،بحيث لا يحتاج معها أن يراجع التفاسير ،فيتوقف عندها متأملاً ؛ ليحرك بها قلبه ،ويعرض نفسه وعمله عليها ،إن كان من أهلها حمد الله ،وإن لم يكن من أهلها حاسب نفسه واستعتب.

والفهم الثاني هو الغاية ، والأول إنما هو وسيلة .

يقول الحسن البصري ـ رحمه الله ـ : العلم علمان : علمٌ في القلب فذاك العلم النافع ،وعلمٌ على اللسان فتلك حجة الله على خلقه.

ولعلي أضرب مثلاً يوضح المقصود : تأمل معي أخي القارئ في أواخر سورة النبأ .

يقول تعالى : (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ، يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ، وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً) !

فهل هذه الآية الكريمة تحتاج من المسلم حتى يفهمها ويتدبرها إلى رجوع للتفاسير ؟.

كلا ،بل هو يحتاج أن يتوقف قليلاً ؛ ليعيش ذلك المشهد المهول ،ويراجع حسابه مع قرب هذا اليوم : ماذا أعد له ؟ وماذا يتمنى لو عرضت عليه الآن صحائف أعماله : حسنِها وسيئِها ؟ ولماذا يتمنى الكافر أن يكون تراباً ؟.

أحسب أن الإجابة عن هذه التساؤلات ،كفيلة بأن يتحقق معها مقصود التدبر ،وهذا ما قصدته بقولي ـ عن النوع الثاني من الفهم ـ : الفهم القلبي الإيماني.

ومن تأمل القرآن ،وجد أن القضايا الكلية الكبرى واضحةٌ جداً ،بحيث يفهما عامة من يتكلمون اللغة العربية ،كقضايا التوحيد ،واليوم الآخر بوعده ووعيده وأهواله ،وأصول الأخلاق الكريمة والرديئة.

وعندي من أخبار التأملات التي أبداها بعض العامة ،ما يجعلني أجزم أن من أعمل ذهنه قليلاً ـ مهما كان مستواه العلمي ـ في هذه الموضوعات ،فسيظفرُ بخير عظيم.

وإليك هذا الموقف الذي وقع لرجلٍ عامي في منطقتنا حينما سمع الإمام يقرأ قول الله تعالى ـ في سورة الأحزاب : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً) قام فزعاً بعد الصلاة يقول لجماعة المسجد : يا جماعة ! خافوا الله ! هؤلاء خيرة الرسل سيسألون عن صدقهم ،فماذا نقول نحن ؟! فبكى وأبكى رحمه الله تعالى.

ومن وُفّق للتدبر ،والعيش مع القرآن ،فقد أمسك بأعظم مفاتيح حياة القلب ،كما يقول ابن القيم : : "التدبر مفتاح حياة القلب" ،وسيجد أن العيش مع القرآن لا يعادله عيش ! ألم يقل الله تعالى لنبيه – صلى الله عليه وسلم - : (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) ؟ لا والله ،ما جعله شقاء ، ولكن جعله رحمةً ،ونوراً ،ودليلاً إلى الجنة كما قال قتادة رحمه الله.

أسأل الله تعالى أن يفتح قلبي وقلبك لفهم كتابه ،وتدبره على الوجه الذي يرضيه عنّا ،وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

  • الكلمات الدالة
8194 زائر
0 | 0
المقال السابق
المقال التالى

روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات