إخوانكم من الجن

QR code
د. عمر بن عبد الله المقبل
تاريخ التحديث: 2014-06-27 09:31:35

إخوانكم من الجن

 

عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَفَقَدْنَاهُ، فَالْتَمَسْنَاهُ في الأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ، فَقُلْنَا اسْتُطِيرَ أَوِ اغْتِيلَ، - قَالَ - فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا هُوَ جَاءٍ مِنْ قِبَلِ حِرَاءٍ - قَالَ - فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدْنَاكَ فَطَلَبْنَاكَ فَلَمْ نَجِدْكَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ. فَقَالَ: «أتاني دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ». قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا، فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ: «لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعَرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ». فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: «فَلاَ تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ». هذا لفظ مسلم. وفي لفظ الترمذي، والنسائي في الكبرى، وابن حبان: "فإنه زاد إخوانكم من الجن".  لقد استوقفتني الجملة الأخيرة من هذا الحديث الشريف كثيراً، وبقيت أتأمل في التعليل النبوي للنهي عن الاستنجاء بالعظم! وتردّدتْ في نفسي تساؤلات كثيرة: أين هؤلاء الإخوة الذين لا نكاد نعرفهم إلاّ بالاسم فقط؟! بل ولا يمكن أن نراهم في هذه الدنيا:  (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ). [الأعراف:27]!

ثم.. هل انتهت الأطعمة التي على وجه الأرض مما يقتات منه إخواننا من الجن، ولم يبق إلاّ هذه العظام حتى ننهى عنها؟! إن القصد من هذا كله ـ بلا ريب ـ أمور، من أعظمها: ترسيخُ هذا الأصل المتين بين المؤمنين، أصل الأخوة والشعور بالجسد الواحد، حتى وإن كان بعضهم قد لا يرى الآخر! بل حتى ولو كان لا يستفيد منه شيئاً يُذكر، اللهم إلاّ الدعاء والاستغفار. فإذا كان في من لا نراهم دائماً ـ وهم مؤمنو الجن ـ فكيف سيكون حق إخواننا المؤمنين من بني آدم؟! وهل انتهت قصة العلاقة الإيمانية عند هذا الحدّ؟ كلا .. بل لقد شمختْ وتسامتْ وارتفعتْ لتتصل بمؤمني أهل السماء  !  تدبر معي ما ذكر الله تعالى عن طائفة من خواصّ ملائكة السماء، إنهم حملة العرش ومن حوله، حينما انطلقت دعواتهم ـ ولا تزال إلى يوم القيامة ـ لإخوانهم المؤمنين من أهل الأرض! يقول جل في علاه:  (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). [غافر: 7-8].ويقول تعالى:  (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). [الشورى:5].  فتأمل في هذه الرابطة العظيمة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله، وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم! إن هذين النصين الكريمين يستحقان أن نقف معهما كثيراً؛ لنراجع أنفسنا في طريقة تعاملنا مع إخواننا الذين يجمعنا معهم وصف الإيمان! فكيف بمن تجمعنا معهم روابط أخرى غيرها؟!  تأمل في أثر هذه الرابطة الإيمانية في تنمية الحس الاجتماعي: "زاد إخوانكم من الجن"! وتأمل في أثرها الذي ظهر في هذا اللهج الدائم بالدعاء لإخوانهم، الذين لولا الوحي لما علمنا بهذه الدعوات الطيبات. فأين أثر هذه الرابطة على حياة المؤمنين؟ أين أثرها الاجتماعي؟ وأين أثرها الإيماني؟! في الميدان نماذج مشرقة ـ ولله الحمد ـ يسرّ بها المؤمن، ولكن فيه ـ أيضاً ـ نماذج محزنة، وهي كثيرة، مجانفة لما يقتضيه وصف الإيمان: من المحبة، والمودة، والتراحم، والتناصح، والدعاء الصادق لإخوانهم بالسداد والتوفيق، فهل من مدّكر؟!

  • الكلمات الدالة
5177 زائر
0 | 0
المقال التالى

روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات