أدب التواصل في مواقع التواصل
أخذت
مواقع التواصل الاجتماعي حيزاً كبيرا من وقت الناس اليوم، وأصبحت وسيلة من أكثر
الوسائل التي تنتقل فيها المعلومة، ويتم فيها الحوار بين أطراف معلومة حيناً،
ومجهولةً أحياناً كثيرة.. والمتابع أدنى متابعة لهذه المواقع، يدرك الأثر الكبير
الذي أحدثته هذه المواقع، كما يلحظ أن هناك خللاً من بعض الناس في التواصل مع
الآخرين، وهذا الخلل يظهر في عدة صور، لعلنا في هذه الدقائق نشير إلى جملةٍ من
الآداب التي سيتبيّن معها الخلل القائم، وأول هذه الآداب:
1)
التثبت في النقل قبل النشر: وهذا أصلٌ شرعي محكم وواضح، قال
تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا
فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، وجاء في قراءة سَبعيّة: ﴿فتثبتوا﴾ وهذه القراءة تزيد
الأمر وضوحاً؛ فهي تأمر عموم المؤمنين حين يسمعون خبراً أن يتحققوا بأمرين:
الأول: التثبت من صحة الخبر.
الثاني: التبيّن من حقيقته.
ومن المؤسف أن بعض الناس ـ بدافع حب الشهرة تارةً، أو نيل
قصب السبق في النشر أو لغير ذلك من الأغراض ـ يبادر بالنشر قبل التثبت والتبين، أو
يدخل فيما يعرف بالوسم أو الهاشتاق الذي وضع لقصة أو موضوع لم يتبين بعدُ ما
حقيقته وما أبعاده.. فضلاً عن أن مثل هذا الوسم أو الهاشتاق قد ينشئه أناس حاقدون
ديننا، أو على بلادنا، فيبوء الإنسان بإثم تكثير سوادهم، ونشر فتنتهم.
وأعظم من يُكذب عليه من الناس في هذه الوسائل هو رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-، فكم نسبت إليه أحاديث وقصص لا تصح عنه! بل بعضها كذب عليه، لا
يصح أن ينسب لآحاد الناس فضلاً عن شخصه الشريف -صلى الله عليه وسلم-!
ويلي هذا الأمر في الخطورة: التسرع في النقل عن العلماء،
خصوصاً العلماء الذين ينتظر الناس كلمتهم، ويتتبعون أقوالهم، وكلُّ هذا محرم لا
يجوز، وإذا كنا قد أمرنا في الآية السابقة: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا﴾ نتحرى ونتثبت من الأخبار عموماً؛ فإنها في حق النبي -صلى الله عليه
وسلم- وحق ورثته أشد وأشد.
ومثل ذلك يقال: في النقل عما يصدر عن ولاة أمور المسلمين،
وعن خواص المسلمين ممن يكون لنقل الكلام عنهم له أثره، فالواجب التثبت والتبين،
قبل أن يندم الإنسان ولات ساعة مندم.
ومن العجلة المذمومة في النشر في هذه المواقع: السرعة في
نشر خبر الوفيات من قِبل غير أهل الميت بسبب حادث أو سكتة قلبية أو نحو ذلك من
الأحوال المفاجئة، فربما يكون بعض أهله لم يعلم بذلك، فيكون وقع المصيبة أشد
وأعظم، فينبغي ترك نشر مثل هذا لأهل الميت أو من يوكلونه.
2)
ومن الآداب المهمة في هذا: لزوم الستر على المخطئ من
المسلمين الذين وقعت منهم زلّة، أو هفوة.. فالملاحظ أن بعض الناس ـ هداه الله ـ ما
إن يظفر بخبرٍ عن مخطئ أو صورة لشخص زلّ، إلا ويبادر بالنشر، وهذا ـ من حيث الأصل
ـ لا يجوز، إذ الأصل السترُ على المسلمين إلا في حالات خاصة، فيجب مراعاة هذا
الأصل، وعلى مَنْ يستهويه النشر أن يفكّر: ماذا لو كان المخطئ شخصاً من أقاربه،
أيرضى بذلك؟ بل ماذا لو كان المخطئ هو؟ وليتذكر قول النبي ج: "وَمَنْ سَتَرَ مُسلِمَاً سَتَرَهُ الله
في الدُّنيَا وَالآخِرَة" رواه مسلم.
لقد من منهج المحدثين الفذ، أنهم إذا ورد في الحديث ذمٌّ
لشخص، قالوا ـ في الرواية ـ: رجلٌ أو امرأة، وإذا ورد في المدح سمّوه وذكروه؛ إلا
في حالات خاصة معروفة الأسباب في كلام أهل العلم.
وتبعاً لذلك: فإن أعظم الجرائم التي يرتكبها بعض الناس في
أمثال هذه الوسائل نشر المقاطع الإباحية، أو نشر روابطها وصورها، ولا أجد أعظم
زاجراً وواعظاً لمثل هؤلاء من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ
الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
3)
الأدب الثالث: التلطف في العبارة عند الحوار والنقاش: فهذا
هو الأصل المحكم الذي دلت عليه نصوص الوحيين، قال تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي
يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (الإسراء: 53) ـ وهذه آية مكية نزلت والمشركون
غلبة ـ وقال تعالى موصيا بني إسرائيل: ﴿وقولوا للناس حسنا﴾، بل أمرنا سبحانه عند
مجادلة أهل الكتاب بذلك فقال: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ (العنكبوت:46).
إذاً فنحن أمام أوامر محكمة، ولا يستثنى منها شيء إلا في
حال مجادلة ظلمة أهل الكتاب.. فأين الذين يتراشقون بأقذع الألفاظ، وأحطّ العبارات
من هذا الهدي القرآني العظيم، والذي طبقه النبي -صلى الله عليه وسلم- في مواضع
كثيرة، في حواره مع نسائه وأصحابه، ومع المخطئ منهم، ولم يخرج عنه إلا في حالات
نادرة لحكمة اقتضاها المقام.
وبعض الناس قد يعتذر بأنه خوطب بالسوء أو الفحش، فيقال
لهؤلاء: تذكروا ما أثنى الله به على عباد الرحمن، بقوله: ﴿وإذا خاطبهم الجاهلون
قالوا سلاماً﴾: يقول ابن جرير - رحمه الله - في بيان معنى هذه الآية: "وإذا
خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول، أجابوهم بالمعروف من القول، والسداد
من الخطاب"([1]).
ومما يروى عن علي س أنه قال: «حِلمُـك على السَّفيهِ يُكثِّر
أنصـارَك عليه»، والمعنى: أن الإنسان قد يبتلى بسفيهٍ يرمي كلاماً يجرح، أو يتصرف
تصرفاً يُؤذي، فإن قابلَه الإنسانُ بسَفَهٍ فقد نزل إلى مستواه، وإن سكتَ عنه
وأعرض تولى الناسُ الدفاعَ عنه، والانتصارَ له، وهذا من ثمار التخلق بأخلاق عباد
الرحمن الذين لا يكتفون بالسكوت عما يَلقونه مِن السَّفَه، بل يرتقون درجةً أعظم،
وهي مقابلة السفه بالقول الليّن، والخطاب السديد! وما أجمل موقف الإمام مالك –
رحمه الله – حين قضى على بعض الشعراء بما لا يوافق هوى ذلك الشاعر، فقال: لأقطعن جلدك
هجاءاً! فقال له الإمام مالك: إنما وصفتَ نفسك بالسفه والدناءة! وهما اللذان لا
يعجز عنهما أي أحد، فإن استطعتَ أن تأتي الذي تنقطع دونه الرقاب فافعل: الكرم
والمروءة!([2])
4)
إلى الذين يكتبون
بأسماء مستعارة: اتقوا الله فيما تكتبون وتنشرون، فإن خفاء الاسم على الناس لا
يعني خفاءه على الله، وخفاءُ الاسم لا يبيح لك التلفظ بالفاحش من القول، أو نشر
الصور المحرمة، أو توظيف هذه الوسائل للتحريض المحرّم، أو غير ذلك من المخالفات.
5)
أدب التواصل بين
الجنسين الذكور والإناث: فليعلم أنه يجب مراعاة الأدب في التواصل مع الجنس الآخر،
وأن يكون التواصل مع المرأة الأجنبية (غير المحرم) بحدود الشرع المطهّر، فالعاقل
يبتعد عن التوسع في العبارات، ويُبْعد عن تبادل الكلمات التي يلج منها الشيطان،
ولا يقولنّ أحدٌ إنني بمنأى عن الفتنة، فإن الإنسان قد يجد من نسفه قدرةً على
الصمود في البداية، ثم لا يلبث إلا أن يلج إلى ما لا يحل.. ولئن افترضنا أنه صمد،
فمن يضمن صمود الطرف الآخر.
ومن أحسن ما يذكر في هذا المقام ما ذكرته أم المؤمنين عائشة
ل في قصة الإفك: "وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِىُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِىُّ
مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ
، فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي ، وَكَانَ رَآنِي قَبْلَ الْحِجَابِ ، فَاسْتَيْقَظْتُ
بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي ، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي ، وَاللَّهِ
مَا تَكَلَّمْنَا بِكَلِمَةٍ وَلاَ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ،
..." فالكلام مع الطرف الآخر ينبغي أن يقتصر على قدر الحاجة، وبأدب يغلق
مداخل الشيطان.
وبكل حال فإن هذه المواقع ميدان خصب لتربية النفس على قيم
الشريعة العظيمة، ومراقبة الله تعالى وخشيته في الغيب، ويوشك أن يغادر أحدنا عن
هذا المواقع، وتبقى معرفاته شاهدة، فلينظر هل تكون شاهدة له أم عليه؟.