دموع الشوق في ليلة ختم " الشمائل "

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2017-05-01 20:35:41

دموع الشوق في ليلة ختم "الشمائل"

في ليلة بهية من ليالي العمر، يسّر الله تعالى إنهاء شرح كتاب (الشمائل المحمدية) للإمام أبي عيسى الترمذي (279هـ) في ليلة الأحد السادس من شهر شعبان من عام ثمانية وثلاثين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية، في عشرة مجالس متفرقة، كل مجلس منها يمتدّ نحو أربع ساعات، وكانت ليلة الختام من أكثر مجالس هذا الشرح تأثراً، لا لشيء إلا لأنها كانت تتحدث في أحد أبواب هذا الكتاب عن وفاة سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم!

لقد رأيت الدموع سخية .. وسمعت النشيج والبكاء.. وممن؟ من أناس أكثرهم أعاجم، امتلأت قلوبُهم حباً وشوقًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهنا وبدون مقدِّمات رجعتْ بي الذاكرةُ إلى أبي لهب وبقية صناديد قريش، الذين عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم وصِدْقَه.. بل هم أعلم العرب بسيرته، ومع هذا حاربوه، وآذوه، وطردوه من بلده ـ وما أشدها على النفس! ـ فكيف إذا كان هذا البلد الذي يضطر الإنسانَ للخروج منه هو مكة!

ثم إذا بك ترى أناساً من السعودية وأوروبا وباكستان والهند ومصر واليمن والشام ـ ممن حضروا هذه المجالس ـ تذرف دموعُهم وهم يسمعون خبر وفاته صلى الله عليه وسلم.. فقد أحبّوه أكثرَ مِن حِبّهم لآبائهم وأمهاتهم، وهم لم يروه، وإني لأرجو أن يكون لهم نصيبٌ من قوله صلى الله عليه وسلم: «من أشد أمتي لي حبًا، ناسٌ يكونون بعدي، يودّ أحدُهم لو رآني بأهله وماله»([1]).

ولقد أعجبني قولُ أحد الطلاب معلقاً ـ بعد انتهاء هذه المجالس ـ: لقد كشف لنا الكتابُ مساحةً كبيرة كانت غائبة عنا من السيرة النبوية التي غالباً ما يقتصر تدريسُها على الجانب العسكري منها ـ الغزوات والسرايا ـ، فعرفنا صفتَه الخَلقية صلى الله عليه وسلم، وعرفنا شيئاً من زهده.. ولباسه ومتاعه.. وضحكه وبكائه.. ونومه ويقظته.. وعبادته ومزاحه.. وخُلُقه وتواضعه وحيائه.. وصمته وكلامه.. ومشيته واتكائه... إلخ ما بوّب عليه الإمام الترمذي رحمه الله. ا.هـ.

وثمة معنى آخر تكشفه لنا أمثال هذه الكتب، وهو هذا الوصف الدقيق المدهش لحركاته صلى الله عليه وسلم وسكناته، حتى إنه ليخيل لك ـ وأنت تقرأ الروايات ـ أنك أمام بثّ حيّ ليومه النبوي، بل لحياته صلى الله عليه وسلم! حتى عدد شعراته البيض في لحيته الشريفة نُقلت لنا! أيُّ نبي فضلاً عن غيره اعتنى أتباعُه به كما اعتنى أصحابُ محمدٍ بمحمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم؟! ثم يأتي لُكَعُ بن لكع([2]) ليقول لنا: إن السنة لم تُحفظ! وضاع منها ما ضاع!

ولو كان لي من الأمر شيء لجعلتُ في كل بلدٍ من يشرح الشمائل المحمدية، أو أيّ كتاب مناسب في السيرة النبوية؛ ويقرّبها لعموم المسلمين؛ ليزداد مستمِعُ الدرس شوقاً وحباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرّك فيه دواعي الاتباع الظاهر والباطن، والرغبةِ في نصرة دينه، والدعوة إليه كلٌ حسب استطاعته..

هنا نقدّم للناس قدوةً لا كالقدوات: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[الأحزاب: 21]، حُبّهُ عبادة، وتذاكرُ سيرته علمٌ وقُرْبة، وسنختصر بمثل هذه الدروس طرائق في التربية والإصلاح لأبنائنا ومن يحضر أمثالَ هذه المجالس.

أسأل الله الذي منّ علينا باتباع دينه ومحبة سنته دون أن نسأله؛ أن يمنّ علينا بالثبات عليها ونحن نسأله، وأن يرزقنا صدقَ الاتباع ظاهرًا وباطنًا، وأن يميتنا على سنته، ويوردنا حوضَه، ويُدخلنا في شفاعته، ويحشرنا في زمرته، مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.



([1]) رواه مسلم ح(2832).

([2]) اللُّكَعُ، كصُرَدٍ: اللئيمُ، والعبدُ، والأحمقُ. القاموس المحيط (ص: 761).

4879 زائر
4 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات