لا تحقرن من المعروف شيئا

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2017-01-12 13:55:56

لا تحقرن من المعروف شيئا ([1])

إن الحمد لله...، أما بعد:

فإن مما خصّ الله به نبينا صلى الله عليه وسلم أن آتاه جوامع الكَلِم؛ فيقول الكلمة والجملة القصيرة، التي يدخل تحتها من المعاني ما لا يحصيه إلا الله تعالى، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم في صحيحه ـ وهو يوصي تلميذه النجيب أبا ذر رضي الله عنه: «لا تحقرنّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق»([2]).

يا لها من كلمة جامعة لكل خير.. وقاعدة من قواعد بناء الخير ونشر المعروف..!

قاعدةٍ تدعو لأن يبقى المسلمُ عضواً فاعلاً للخير، متحركاً إلى الإحسان، مبادراً إلى الطاعة، سبّاقاً إلى الفضائل، وأن لا يزهد عن خيرٍ مهما صغر في عينه، ولو كانت بابتسامة في وجه أخيه، أو يلقى أخاه بوجهٍ طَلْق، فإن عجز عن هذه وتلك، فليكف شره عن الناس! فتلك صدقة، وكل معروف صدقة.

والمعروف ـ حين يطرق آذاننا ـ فهو: يشمل كل ما عُرف من طاعة الله تعالى والإحسان إلى الناس، حتى قال بعضُ أهل العلم: "المعروف عند العرب ما يعرفه كل ذي عقل، ولا ينكره أهل الفضل"([3]).

أيها المسلمون: إن مِن كرم الله تعالى أنه يُنيل الإنسانَ الفوزَ بالجنة والنجاة من النار بالعمل اليسير، والمتأمل في السنة النبوية يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فتح للمؤمنين آفاقاً رحبة لفعل المعروف، الذي ثمرته جنةٌ عرضها السماوات والأرض.. أعمالٌ يسيرة، وأجور عظيمة:

1 ـ ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بينما رجل يمشي بطريق؛ وجد غصنَ شوكٍ على الطريق فأخّره؛ فشكر الله له فغفر له»([4]).

2 ـ ومن ذلك: قصة البغيّ التي سقَت كلباً، أخبر صلى الله عليه وسلم أن الله غفر لها ذلك، وأدخلها الجنة، وفي عموم الإحسان إلى البهائم يقول عليه الصلاة والسلام: «في كل كبدٍ رطبة أجر»([5]).

 3 ـ ومن ذلك: ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة»([6]).

فيا من عجز أو تكاسل عن الصدقة بجزء من التمرة! هل تعجز عن كلمة طيبة تُدخل بها السرورَ على أخيك، أو تدفع عنه بها حزنَه، أو تأمر بمعروف، أو تنهى عن منكر؟!

4 ـ ومن أبواب المعروف اليسيرة التي لا يصح احتقارُها: كفّ الأذى عن الناس باليد واللسان، كما في "الصحيحين" عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيله، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تُعيْن صانعاً، أو تصنع لأخرق، قلت: أرأيت إن ضعفتُ عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة»([7]).

بل قد روي عن الحسن، وابن سيرين: أن فعل المعروف يؤجر عليه، وإن لم يكن له فيه نية، سُئل الحسن عن الرجل يَسأله آخرُ حاجةً وهو يبغضه؛ فيعطيه حياء: هل له فيه أجر؟ فقال: إن ذلك لمن المعروف، وإن في المعروف لأجراً.([8])

5 ـ ومن أبواب المعروف: أداء حقوق المسلم على المسلم، كـ: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس، وإذا استنصحك فانصح له، وإبرار القسم، ونصرة المظلوم، وإفشاء السلام، وإرشاد الضال، والمشي بحقوق الآدميين الواجبة إليهم، وإنظار المعسِر، وبر الوالدين، والإحسان إلى الزوجة، وحسن تربية الأولاد، وبذل النصيحة، وتعليم الجاهل، وقيادة الأعمى، وبذل الشفاعة الحسنة، والدعاء للمسلمين.

6 ـ ومن الأحاديث العظيمة التي تدل على سعة مدلول هذه الكلمة النبوية الجامعة - «لا تحقرن من المعروف شيئاً» - ما جاء في الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: «أربعون خصلة، أعلاهن منيحة العنز([9])، ما من عاملٍ يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها، وتصديق موعودها؛ إلا أدخله الله بها الجنة»([10])،  فتأمل ـ أيها المسلم المبارك ـ هذا الترغيب العجيب، فإذا كانت أعلى هذه الخصال الأربعين هي منيحة العنز، فما ظنك بما دونها؟! فمن حقق الشرط المذكور: "ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها، وتصديق موعودها"؛ حصل له الأجر الموعود: "إلا أدخله الله بها الجنة".

7 ـ ومن الخير العظيم الذي يوفِّق الله له مَن شاء من عباده: دعوة الكافر ولو بكلمة واحدة.. أو تعاملٍ حسن.. هذا فلبيني أسلم بسبب كلمةٍ كان يسمعها من عامل محطة البنزين الهندي الذي كان يحمل في قلبه همّا للدين، إلا أن لغته ومعلوماته لم تكن لتساعده على الحديث، لكنه لم يتوقف، فكان إذا مرّ به هذا الفلبني ليتزود من الوقود، لا يزيد على هذه الكلمة: (إسلام فيه كويس.. إسلام فيه كويس)، يقول أخونا الفلبيني: فمن كثرة ما ردّد عليّ؛ قرّرت القراءة عن الإسلام، وبالفعل وجدتُ الإسلام كما ذكر هذا الأخ الهندي، فأسلمت لله رب العالمين..

فانظروا رحمكم الله، كيف نال هذا العامل الهندي بركةَ قوله صلى الله عليه وسلم: «والله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من أن يكون لك حُمْر النعم»([11])، ببركة تطبيق هذا التوجيه النبوي الكريم: "لا تحقرن من المعروف شيئاً".

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة....


 

الخطبة الثانية

الحمد لله ...، أما بعد:

8 ـ ومن النماذج التطبيقية لهذا التوجيه النبوي العظيم: «لا تحقرن من المعروف شيئاً»؛ قوله صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين -: «يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارةٌ لجارتها، ولو فِرسنَ شاة»([12]) [وهو عُظَيم صغير قليل اللحم] ففي هذا الحديث الحض على مهاداة الجار وصِلتِه، وإنما أشار النبي عليه الصلاة والسلام بفِرسِن الشاة إلى القليل من الهدية، لا إلى إعطاء الفِرسِن! لأنه لا فائدة فيه([13])، فيكون الغرض الأسمى في هذا هو: بقاء حبل المودة والتواصل بين الجار وجاره.

9 ـ ومن فقه هذه الكلمة النبوية الجامعة: عدم احتقار الصدقة مهما قلّ ثمنُها، فهذه أُمّنا عائشةُ رضي الله عنها يأتيها سائلٌ فلا تجد في تلك اللحظة سوى حبتي عِنب فتصدقت بها! وقالت: كم فيها من مثقال ذرة! قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾[الزلزلة: 7]([14]).

واليوم ـ ومع معاناة أهلنا في سوريا ـ تفتح الأبواب مُشرعةً للتبرع بهذه الحملة المباركة التي أطلقها وليّ الأمر وفقه الله؛ فلا تحتقر عشر ريالات تتبرع بها، بل ولا تحتقر ريالاً واحداً، فإذا علم الله من قلبك أن هذا ما في وسعك؛ فقد يسبق ريالُك مئاتِ وآلافِ الريالات.

أيها المسلمون: ما سبق كلّه كان في نماذجَ للمعروف المتعدي نفعُه للآخرين مِن إنس أو حيوان، أما المعروف القاصر على فاعله؛ فأبوابه لا تُحصر، ومن ذلك:

10 ـ أنواع الذكر: فكم من تسبيحة أنارت لصاحبها قبره، وتحميدة أرضت عنه ربه، وتهليلة أنجته من عقابه، واستغفار محا ذنبه، وصلاةٍ على محمد صلى الله عليه وسلم رفعته عند مولاه.. وكم آيةٍ ثقّلت موازين حسناته، وخطوة مشاها إلى المسجد رفع الله بها درجة...وهكذا، أعمال يسيرة، وما زهّد بعضَ الناس بها إلا مخالفة هذا التوجيه النبوي الكريم: «لا تحقرن من المعروف شيئًا».

فافعَلِ الخَيرَ وأمّلْ غِبَّهُ *** فهوَ الذُّخرُ إذا اللَّهُ حَشَر

اللهم اجعلنا من المسارعين للخيرات، وأعذنا من الزهد في قليل الحسنات.

اللهم اجعلنا من أهل المعروف في الدينا، الذين هم أهل المعروف في الآخرة، واجعلنا هداة مهتدين، مفاتيح للخير مغاليق للشر، وتقبل منا إنك أنت السميع العليم.


 



([1]) ألقيت في 8/4 / 1438هـ.

([2]) مسلم ح(2626).

([3]) فيض القدير (2/ 557)، والمقولة للعسكري.

([4]) متفق عليه: البخاري ح(624)، مسلم ح(1914).

([5]) متفق عليه: البخاري ح(2363)، مسلم ح(2244).

([6]) متفق عليه: البخاري ح(1351)، مسلم ح(1016).

([7]) متفق عليه: البخاري ح(2382)، مسلم ح(84).

([8]) جامع العلوم والحكم: (2/ 89).

([9]) أنثى العنز تُعطى ليُنتفع بلبنها ثم تُرَد.

([10]) البخاري ح(2631).

([11]) متفق عليه: البخاري ح(3009)، مسلم ح(2406).

([12]) متفق عليه: البخاري ح(2566)، مسلم ح(1030).

([13]) شرح صحيح البخاري لابن بطال: (9/ 222).

([14]) الاستذكار: (8/ 375).

10686 زائر
1 | 0
المقال السابق
المقال التالى

هذا ولي الله


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات