أدركت
أقواما ([1])
إن الحمد
لله...أما بعد:
فلقد كان
السلف الصالح ينوّعون العبارات في وعظهم وتذكيرهم؛ حتى لا تملّ الأسماع، ولا تصدَّ
الأنفس عن سماع ما يُراد التذكير به.
ومن تلكم
العبارات السائرة، قولهم: لقد أدركتُ أقواماً... وهي تشير إلى أن المتكلم أدرك قوماً
فيهم صفة من الصفات الحسنة التي بدأت في الانحسار، وغالب هذا الأسلوب يراد منه
التذكير بصفةٍ عزيزة أو خُلُق نبيل، أو عادة حسنة بدأت تختفي في نظر المتكلِّم،
الذي يريد بكلمته تلك أن يذكّر المستمعين، ويرفع همتهم، ومن ذلك:
قول الحسن
البصري - وهو إمام من أئمة المسلمين في وقته علمًا وعملاً وزهدًا ووَرعاً- (ت
110هـ) ـ رحمه الله ـ، وهو يصف مَن أدرك مِن أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم
وأكابر التابعين: "أدركتُ أقواماً كانوا لا يفرحون بشيءٍ من الدنيا أتوه، ولا
يأسَون على شيءٍ منها فاتهم"([2]).
هكذا يصف
الحسنُ نظرةَ مَن سبَقه من الصحابة والتابعين إلى الدنيا، وهم بذلك يُترجمون حقيقةَ
فهمِهم لهذه الحياة الفانية، وفهمهم لما قرأوه في كتاب ربهم: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي
أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا
بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾[الحديد:
22، 23].
وقال الحسنُ
أيضاً: "أدركتُ أقواماً ما كان أحدُهم يستطيع أن يُسِرّ عملاً فيُعلنه، قد
علموا أن أحرز العمَلين مِن الشيطان عملُ السر"([3]).
وهذا درسٌ
عظيم في الإخلاص، وتربية النفس على كتم الحسنة كما يكتم أحدُنا السيئة؛ لأن
الإخفاء أقرب للإخلاص، وأبعد من عناء المجاهدة، وهذا كلّه فيما يمكن إخفاؤه، إلا
لمصلحة تقتضي الجهر، كما قال تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ
فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾[البقرة: 271].
وحرصُ العبدِ
على الإخلاص نابعٌ من يقينه بأن الله لا يقبل من العمل إلا ما ابتُغي به وجهه،
وبأن الإخلاص يضاعِف أجرَ العمل وينميّه، ويزيد القلبَ نورًا وقوّة، إذ مَدَدُه من
الله فحسب، بخلاف المخلِّط والمرائي - عياذًا بالله -.
وقال ـ رحمه
الله ـ: "أدركتُ أقواماً كان أحدُهم أشحّ على عمرِه منه على درِهمه
وديناره"([4]).
إنها التربية
على حفظ الوقت في أن يذهب سدى.. لأن النتيجة مؤلمةٌ بقدر ما يضيع.. فإن كان في لهوٍ
مباح ندِم أن لم يكن كالذين اغتنموا أوقاتهم فيما يَرفع درجاتهم عند الله.. وإن
كان في لهوٍ محرّم؛ فالألم والحسرةُ أشدّ! وسيَبِين هذا يومَ التغابن، يوم يُقال
للمُبطلين: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ
فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ﴾[فاطر: 37]، ويوم يقال للخاسرين: ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ
إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾[المؤمنون: 114، 115]!
إننا اليوم
نعيش مأساةً في التعامل مع الوقت.. تفننٌ في تضييعه وقتله..! وهل الحياةُ والعمر
إلا الوقت؟! فمن ضيّع وقتَه القصير فقد أضاع حياتَه! ومَن غار على وقتِه غَيرة
الناس على أموالهم؛ فسترى أثرَ هذه الغَيرة على حياته.. إنجازاته.. أثرها في
الحياة الدنيا قبل الآخرة.
إننا بحاجة
لتربيةِ مَن حولنا على هذا المبدأ.. وأوّل ذلك: أن يرى الأولادُ قدوةً صالحة في
البيت، تكون مُلهِمة للأولاد.
وقال الفضيل
بن عياض ـ رحمه الله ـ: "أدركتُ أقوامًا يستحيون من الله سوادَ الليل من طول
الهجعة, إنما هو على الجَنْب, فإذا تحرّك قال: ليس هذا لكِ، قومي خُذي حظَّكِ من
الآخرة"([5]).
الله أكبر! ما
أحوجنا لهذه الكلمة، خاصةً في ليالي الشتاء الطويلة، التي يمضي غالبُها عند
الأكثرين بما لا فائدة منه، هذا إن سَلِم من الإثم والعمل المحرم..ألا ما أعظم
الحسرة! أن تمضي على العبدِ في مثل هذه الليالي عشرُ ساعات يُسمّر عينيه نصف تلك
الليلة أو أكثر أمام شاشات التلفاز أو الجوال، أو في حديثٍ يقطّع به الوقت، فإذا
حانت ساعةُ الليل ومناجاة الرحمن..ذهب إلى فراشه، أو صلى ركعةً ينقرها نقر الغراب!
وتالله لو
صحّت قلوبُنا لتألمنا على فواتِ هذا الليل دون أن يكون لنا منه نصيبٌ يناسب طولَ
وقته، ويناسب طولَ غفلتنا ولهونا في دنيانا!
ولو صحّت قلوبُنا
لكان بزوغُ الفجر لحظةً غير محبّبةً؛ لما يَجد مِن الأنس بمناجاة الله..
ولنفتِّش عن
ذنوبٍ حرَمَتْنا هذه اللذة! كما قال الفضيل: «إذا لم تقدِر على قيام الليل، وصيام
النهار؛ فاعلم أنك محرومٌ مكبَّل كبَّلتك خطيئتُك»([6]).
فإن قلتَ:
قيامُ الليل مستحب، ولو بركعة، لكن، بالله عليكم!
ما
قيمةُ الليل لا تتلى به السورُ |
|
ولايقلب
في آياته البصرُ؟ |
بارك
الله لي ولكم في القرآن والسنة....
الخطبة الثانية
الحمد
لله...، أما بعد:
ففي هذه
الأيام يَكثر خروجُ الناس إلى البريّة، وهذه ثلاثة رسائل مختصرة:
الرسالة
الأولى: وتكثر مع هذه الحال الأسئلة، والذي
ينبغي على الخارج للبرية أن يتفقّه في المسائل التي يحتاجها، كطرق معرفة القِبلة،
وصفة التيمم، ومتى يجوز له ذلك، ومتى يَقصُر، ومتى لا يقصر، فإن هذا أهمّ من
الاستعداد المادي للرحلة.
الرسالة
الثانية: فإن مما تشكو منه بعضُ البيوت،
وخاصة الأمهات اللائي ليس لهن إلا ولد واحد، أو الزوجة التي تعيش في مكان بعيد عن
أهلها، وليس لديها ذرية، أو أطفالها صغار، ثم يخرج هؤلاء اليوم واليومين، دون
مراعاة لمشاعر مَن خلفهم! إذا لم تمنع هؤلاء الديانةُ فأين المروءة؟ أأصحابك خيرٌ
وأحق من والديك وزوجتك؟! ثم كيف تهنأ برحلةٍ أمك أو أبوك فيها محتاج لوجودك بجانبه؟!
نعوذ بالله من الخذلان والعقوق!
الرسالة
الثالثة: إلى أولئك الذين يجعلون الخروج
إلى البرية سبباً للترخص في فعل الحرام أو التقصير في الواجبات.. تذكروا هذه
الحقائق القرآنية: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[الحديد: 4]، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا
فِي السَّمَاءِ﴾[آل عمران: 5].
وفي المقابل..
فإن الموفّق من هؤلاء من يجعل الرحلات فرصةً لمحاسبة النفس، والتفكر في الخلْق؛
علّه أن يكون من أولي الألباب: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[آل
عمران: 191].
الخلوات فرصة
لأصحاب القلوب الحيّة:
من
كَانَ يخْشَى الله جلّ جَلَاله |
|
فليكثر
العبرات فِي الخلوات |
وبالجملة ـ يا
عباد الله ـ فإن على المرء أن يتقي الله في حِلّه وترحاله، فإن لله عليه عبوديةٌ
في السفر كما له عبودية في الحضَر، ولله عليه عبودية في الضراء كما له عليه عبودية
في السراء: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا
أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعام: 162، 163].
اللهم ارزقنا
خشيتك في الغيب والشهادة..