المستشرفون

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2016-11-28 12:13:14

المستشرفون

أرْسَلَتْ رسالةً نصية على الجوال ـ على غير العادة ـ تقول فيها: أنقذني يا شيخ! فلقد سَرَتْ إلى قلبي عدد من الشبهات بسبب فضولٍ دفعني إلى الدخول إلى أحدِ مواقعِ الملاحدة، وما كنت أظنّ أنها ستسري في قلبي سريان النار في الهشيم!

كانت هذه رسالةً من إحدى الأخوات اللاتي عرفتهن بالحرص على طلب العلم الشرعي، وكانت أسئلتها تدندن حول العلم وطلبه.

هنا تذكرت تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لأمته من استشراف الفتن عموماً، كما في الصحيحين: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تَشَرَّف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذاً فليُعذ به"([1]).

والشاهد قوله: "من تَشَرَّف لها تستشرفه" أي من تطلّع  إليها على سبيل التسلية أخذته غَلَبَةً، لأن عادة الفتن أنها تعلو المستشرف لها.

ومجموعُ ما ورد من ألفاظ هذا الحديث تشيرُ إلى أن كلَّ حركة غير مشروعة في الفتن يصل من الشر إلى المتحرك فيها بمقدار حركته منها، ومَنْ قَرُبَ منها جرّته إلى نفسها، والخلاصُ في التباعد منها، والهلاك في مقاربتها([2]).

وهذا الحديث وإن كان يعني بالأصالة الفتن المعروفة التي يُشهر فيها السيف، ويضطرب فيها حبل الأمن، وتموج بالناس موْجاً، إلا أن عموم اللفظ يتسع للقول بأنها تشمل فتنة الشبهات، لعظم خطرها، بل هي بوابةٌ لأمر أخطر من فتنة القتل، فإن موتَ الإنسان في فتنةٍ ما على الإسلام، خيرٌ من موته ملحداً أو شاكاً في دينه بسبب عاصفة الشبهات التي عصفت به بسبب اسشرافه لها، إما عبر الكتب، أو مواقع الإنترنت، أو مواقع التواصل أوغيرها من الوسائط والقنوات الإلكترونية.

ويزيد هذا الأمر وضوحاً ما ورد في حديث عمران بنِ حُصين رضي الله عنهما ـ في خبر خروج الدجال ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سَمِعَ بالدَّجَال فلينأ عنهُ، فوالله إن الرَّجُل ليأتيهِ وهو يحسِبُ أنه مؤمنٌ فيتَّبِعُهُ مما يبعثُ به من الشُّبهاتِ، أو لما يَبعَثُ بهِ من الشّبُهات"([3]) فيا سبحان الله! تأمل هذا اللفظ! كم تجد فيه من النصح والتحذير من الناصح الأمين صلوات الله وسلامه عليه؟!

فلكم رأينا وسمعنا بأناس كانوا على الجادة، ولم يكن شيء أحبّ إليهم من العلم ومذاكرته، والترددِ على بيوت الله، وثني الرُكَبِ في مجالسِ العلم، مع عاطفة جياشة على أحوال المسلمين، يترجمها بالدموعِ والعمل، والعزمِ على إصلاح ما يمكن إصلاحه، يزيّن ذلك حُسنُ سمْتٍ في الظاهر، وعناية بالسنة، فما هو إلا أن يفجأك خبر هذا بتغيّر حادٍ في بوصلة التفكير والاهتمامات، وبرودِ في العواطف، وانقلابٍ في الاهتمامات، وتحول غريب في التصورات، ظهر أثره على البعد عن السمت الذي يوافق السنة إلى ما يخالفها!

فإذا بحثت عن السبب؛ وجدتَ هذا النوع من الاستشراف للفتن العلمية أحد أهم الأسباب، فلقد أضحى صريعاً لفتنة "الاستقلال"، وموضة "الحرية المفتوحة في النظر المعرفي".. دخل إلى هذا العالم المليء بالأشواك، والبحرِ المتلاطم من الشبهات، ظاناً أن معرفته وإيمانه كافيان لتبديد ظلمة الشبهات، والخروج من بحرها المتلاطم، وإذا به يُفاجأ بأن نور معلوماته ضعيف وخافت لا يضيء له ما بين يديه فضلا عما هو أبعد، وأن طَوْقَ نجاته أشبَه بالأسفنجة، تشرّب تلك الفتن، فغرق هو وطوقه الموهوم!

إنّ أصعب الحالات التي يمرّ بها قلب المسلم أن يعيش لحظات الشكّ في أعزّ ما يملك وهو دينه، والتشكيك في مصادره ـ الكتاب والسنة ـ فضلاً عن أن ينتقل إلى حال التنكر لها بالكلية!

ومن دعاه فضوله إلى القراءة في كتب هؤلاء أو الدخول في معرّفاتهم، فليتذكر وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي سبقت: "فمن وجد منها ملجأ أو معاذاً فليُعذ به"، وليكن شعاره وهو يسمع بهذه المنافذ المشكّكة ـ التي تروّج باسم المعرفة والفكر والثقافة ـ أن يقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمّا سيم على دينه: ﴿قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِين﴾[الأنعام: 57].

ولا خير ـ والله ـ في معرفةٍ تورث شكّا، ولا في فكْرٍ يورث كُفْرا، ومَنْ لم يُرَ عليه آثار فكرِه وبحثه في سمته وطمأنينة حاله، وإصلاحِ واقعه، وقربه من الوحيين قولاً وعملاً؛ فلا يُنْتَظرُ منه أن يصلح غيره، فاللهم إنا نعوذ بك من الحور بعد الكور، وندعوك بما دعى به الراسخون في العلم: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ[آل عمران:٨].



([1]) البخاري ح(3601)، مسلم  ح(2886).

([2]) ينظر الإفصاح عن معاني الصحاح (6/ 149).

([3]) أبو داود ح(4319).

5779 زائر
3 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات