بل هو خطأ

QR code
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
تاريخ التحديث: 2016-05-02 13:52:38

بل هو خطأ

تحفلُ الكثيرُ من المجالس بالحديث عن مختلف القضايا، سواء ما اتصل منها بالقضايا الشرعية أم الاجتماعية أم غيرها..وفي بعض الأحيان يسيطر عليها حديثٌ في قضيةٍ ـ قد تكون حديث الشارع ـ وكلٌ يُدلي برأيه في هذه القضايا، والأمرُ إلى هذا الحدّ مفهوم، ما لم يكن حديثاً بغير علم في قضايا الشريعة، فالنصوص الشرعية واضحة في التحذير من الخوض فيها بغير علم.

تبدأ المشكلةُ حين يتداول الحضورُ قضيةً ذات أبعادٍ كثيرة، وربما كانت معقّدة، فيطرحُ بعضُهم وِجهةَ نظَره في تلك القضية، فإذا ما خولف في رأيه ردّ مباشرةً بتخطئةِ الرأي الآخر، دون إعطائه فرصةً للتوضيح، أو إعطاء نسبة احتمال صوابٍ في رأيه، والمحصّلة النهائية لكلامه هي أن رأيي صوابٌ لا يحتمل الخطأ!

هذا المشهد يتكرر في كثير من المجالس مع عددٍ من القضايا، وهذا لا يعود لأن المسألة فيها نصٌّ تلقّاه ذلك "الصوابيّ" عن طريق الوحي! كلا، وإنما يعود لطبيعة تفكيره وأسلوبه في الحوار، والذي يكشف عن جهل أو كِبْرٍ، واللذان ينشأُ عنهما ألوانٌ من الخطأ بل والصَّلَف في طرح الرأي، ومناقشة آراء الآخرين، وذاك المسكينُ يظنُّ أنه مَلَك ناصيةَ الحق، أو أن الناس يسكتون عن إتمام الحوار معه لأنه أفحم غيرَه بالحجج الباهرة، والبراهين الساطعة، وهو لا يدري أنه لم يناقشه أحدٌ لجهله وظلمه لا غير، ورحم الله الإمام الشافعي يوم قال: "رأيي صوابٌ يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب"([1]).

هذا الأسلوب في القطع لا يقتصر على القضايا التي لا نصّ فيها، بل يمتد إلى مسائل شتى خاصةً المسائل الشرعية، والتي تأخذ نصيبَ الأسد من الحديث في كثيرٍ من مجالسنا، والعجيب أن ترى تلك الحماسة للقطعية بصواب الرأي في مسائل فيها الأدلة متكافئة، ولو تحدث عنها عالم لقدّم وأخّر في الترجيح، بل قد يكون جمهور العلماء على خلاف تلك المسألة التي تحمّس لها المتحدِّث!

أذكر أن أحدهم اتصل بي يريدني أن أتصل على أحد المشايخ الذين أفتوا في مسألةٍ على خلاف ما يَعهد هو منها من الحكم الشرعي، يريدني أن أنصحه عن هذا القول الذي قال به! معلّلاً أنه خلاف ما نعرفه، وما عليه الفتوى التي كنا نسمعها من مشايخنا الكبار...الخ كلامه، فقلتُ له: إن القول الذي أفتى به هذا الشيخ هو قول جماهير العلماء، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، فدهش دهشةً عظيمة! ثم سكت.

هذا الاتصال يكشف عن سببٍ من أسباب اعتقاد الصوابية المطلقة في آرائنا الشرعية أو غيرها، وهو جهلُ المتحدث بالخلاف، وبأطراف المسألة التي يخوض فيها، وصدق أبو حنيفة يوم قال: "أعلمُ الناسِ أعلمُهم باختلاف الناس"([2])، ومفهومُ كلمة هذا الإمام ظاهر وبيّن.

وقد قلتُ في نفسي ـ بعد اتصال ذاك الأخ ـ: هذا شخصٌ استطاع أن يستوضح ممن يثق به، فكم هو عدد الأشخاص الذين مضوا لا يلْوُون على شيء؛ ليخطّئوا ذلك الشيخ الذي استغرب صاحبي فتواه؟ وكم نِيْلَ منه بسبب جهل المتكلم عليه بالخلاف في تلك المسألة؟!

ومن شؤم هذه الطريقة في التعامل مع المسائل: شحنُ النفوس على المخالِف، بحجّة أنه خالف الحق! وما هو إلا الحق الذي في رأس ذلك المتحدِّث فحسب، وقد يكون الحق في خلافه!

ومهما يكن مِن أمرٍ، فإن من العقل والحكمة أن يكون الإنسانُ واسع الأفق، معتدلاً في طرحه، واضعاً مساحةً من الصواب للطرف المقابل، ما لم يكن في المسألة إجماع، أو نصٌّ صريح لا يقبل التأويل، مع الاحتفاظ بأكبر قدر من العبارات الليّنة في التعبير عن خطأِ مَن ثبتت مخالفته، خاصةً وقد عُلم صدقُه واجتهادُه في تحرّي الحق، وهذا كلّه في ذلك النوع من المسائل التي تتجاذبها الأدلّة، أما ما سوى ذلك فدائرةُ العذر فيها ينبغي أن تكون أوسع وأكثر.



([1]) انظر: التعريفات للجرجاني (ص: 135).

([2]) سير أعلام النبلاء (6/ 258).

4094 زائر
0 | 0
المقال السابق
المقال التالى

بين العشر والعشر


روابط ذات صلة
إن للحافظ ابن رجب : (ت: 795هـ) كتاباً بديعاً حافلاً بالفوائد، اسماه "لطائف المعارف"، جمع فيه من العلوم والفوائد المتعلقة بالشهور والأيام ما تَقرّ به عينُ طالب العلم، وراغب الفائدة. ومِن جملة هذه الفصول التي تحدث فيها؛... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:25:00
د. عمر بن عبد الله المقبل
أيها الإخوة في الله: إن نهاية الأعوام، وبداية السنوات لها في النفس أثرٌ معنوي، ودلالات معينة، وهي تختلف من شخص لآخر بحسب دينه، وبحسب نظرته للحياة، إلا أن المسلم الفطن -وهو يعيش أواخر عام وبدايات آخر- يتعامل مع هذه... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:24:07
د. عمر بن عبد الله المقبل
ففي مثل هذه الأيام من كل عام تتوارد الأسئلةُ على أهل العلم عن حكم التهنئة بالعام الهجري الجديد. وكالعادة - في مثل هذه المسائل التي لا نص فيها- يقع الاختلاف بين أهل العلم، والأمر إلى هذا الحد مقبول؛ لكن أن يجعل ذلك من... المزيد
التاريخ: 2/1/1441هـ الموافق: 2019-09-01 05:23:36
أ.د. عمر بن عبدالله المقبل
إن المقام ليس مقام حديثٍ عن مزايا هذا التاريخ، بل هي نفثة مصدور مما أراه من استفحال التعلق بالتاريخ الميلادي إلى درجة ربط الشعائر الدينية به! ولو تأمل الإخوةُ -الذين يضعون تلك الوسوم (الهاشتاقات)- ما فيها من التناقض... المزيد
التاريخ: 28/12/1440هـ الموافق: 2019-08-29 06:54:23
د. عمر بن عبدالله المقبل
ومن المهم جداً ـ ونحن نتحدث عن هذه الصور وغيرها كثير ـ أن يكون أداؤها وفعلُها بلا مِنّة، بل بنفْسٍ منشرحة، تشعر بأن المنَّة كلَّها لله؛ أن جعل يدَه هي العليا المنفقة الباذلة، وأن يستشعر أنه لولا فضلُ الله لكان في مكان... المزيد
التاريخ: 29/11/1440هـ الموافق: 2019-08-01 07:42:10
د. عمر بن عبد الله المقبل
لقد طُرِقتْ هذه المسألةُ كثيراً، لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان تقريبُ كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة مِن الأهمية بمكان، مستفيداً من نصوص الوحيين، وكلام العلماء والعقلاء، وقد نظمتُها... المزيد
التاريخ: 18/11/1440هـ الموافق: 2019-07-21 08:25:37
التعليقات